لن نطيل البقاء

2022.03.09 | 06:43 دمشق

5_16.jpg
+A
حجم الخط
-A

يخرجون على عجل تاركين خلفهم تفاصيل حياة كاملة، لا وقت في مثل هذه اللحظات سوى للتفكير بضرورة النجاة من الموت المحقق، التفكير بكل ما عدا ذلك ليس سوى ترف ليس في المتناول في اللحظات الراهنة.

نعرف هذه المشاهد جيداً ولا نملك سوى الحسرة ونحن نقارنها اليوم بما عشناه قبل ما يقارب العقد وربما ما زال بعضنا يعيشه حتى الآن، ذلك أننا لم نجد حتى اللحظة مستقراً أخيراً.

من الأفضل ألا نتحدث عن مقاربة التجربتين وربما نتمنى في دواخلنا ألا تشبه تجربة الشعب الأوكراني تجربتنا المريرة، على أمل أن تختلف معهم مواقف العالم والدول العظمى ويستطيعون الحد من مأساتهم فيكون ذلك من حسن حظهم.

جزء منا كان يبعث فينا الأمل عنوة حين وصمنا العالم باسم اللاجئين للمرة الأولى، جزء منا كان يعض على شفاهه وهو يدرب قلبه على الصبر ويمنيه بأمل العودة القريبة والمحتومة

يذكر كل منا ربما اللحظات الأولى التي قرر فيها الخروج من منزله والبحث عن مكان لا تصله آلة الموت، اللحظات التي سبقت اتخاذ القرار ثم اشتعال الفتيل في اللحظة التي خطت فيها أقدامنا عتبة الباب، تلك هي اللحظة التاريخية الحقيقية التي على التاريخ أن يذكرها في كتبه، اللحظة التي لن يعود فيها أي شيء بعدها مثلما سبق، اللحظة الحقيقية الفارقة في حياة الشعوب.

جزء منا كان يبعث فينا الأمل عنوة حين وصمنا العالم باسم اللاجئين للمرة الأولى، جزء منا كان يعض على شفاهه وهو يدرب قلبه على الصبر ويمنيه بأمل العودة القريبة والمحتومة.

كنا نؤمن بأننا إذا تركنا كل شيء على حاله فإننا سنعود لنتابع حياتنا من المكان الذي توقفنا عنده، كنا نريد أن نصدق أن الزمن سيتوقف ريثما نعود، وأن مرحلة الغياب هذه ليست سوى جزء غير مرغوب في الذاكرة سيتخلص الدماغ منه سريعاً.

كان الأمل الشيء الوحيد الذي يمكن أن يخفف هول المعاناة وفظاعة الفاجعة، الفاجعة التي لا نودّ الاعتراف بيننا وبين أنفسنا بها، أننا الآن نعبر موتاً من نوع مختلف لا يتضح فيه شكل الحياة التي تنتظرنا بعده.

عشنا في الفترة الأولى على فتات ذلك الأمل ثم تحوّل مع الوقت إلى وقوف على الأطلال بتذكر تفاصيل حياتنا ومنازلنا خشية أن تغيب وتتلاشى مع الوقت، لكن العدّ العكسي للذاكرة قد بدأ يفعل فعله، وها نحن ذا نحاول التشبث بقشة ذاكرة تسعفنا وتنقذنا من الغرق.

تغيرت مفاهيمنا عن الاستقرار مع الوقت وبات لزاماً علينا التعامل مع العالم والتأقلم بأن فكرة العودة تحتاج إلى زمنٍ أطول إلى حد ما، فاخترنا اقتناء الأشياء الضرورية والآنيّة فحسب، معتقدين أننا بذلك نرسل رسالة إلى الكون بأننا عائدون لا محالة ولن نطيل البقاء هنا.

جزء داخلي منا كان يعرف أننا شعب لُعن بالشتات وبعدم الاستقرار، وبأن أشياءنا مثلنا أصبحت زائدة ولا مكان لها في هذا العالم الذي حكم علينا أن نكتفي بالقليل من المساحة والأشياء والحب وحتى الأوكسجين.

أحاول أن أتذكر منزلي قبل آخر نزوح من البلاد فتقفز إلى ذاكرتي مجموعة المنازل التي سكنتها في خلال رحلات النزوح الداخلي، يبدو شكلها اليوم مشوشاً وغير واضح، في كل منزل كنا نترك شيئاً لا مكان له في رحلتنا القادمة، والحقيقة أننا تركنا أنفسنا هناك تباعاً وبدأنا نسلّي أنفسنا بادّعاء التأقلم والاندماج في منفانا الجديد.

لم يعد أيّ منا على الغالب ينزع إلى الاستقرار مثل أي كائن بشري، أصبحت همومنا أقل من ذلك بكثير، وبتنا نحلم على الأقل باستعادة حالة الثقة والأمان في المكان الذي نزحنا إليه، وربما هذا هو التحدي الأصعب الذي نعيشه اليوم خاصة أننا دخلنا حيَواتنا الجديدة محمّلين بأزمة ثقة مع العالم ومع المحيط والمكان وحتى مع أنفسنا.

كل مرة نحاول أن نتنفس فيها الصعداء أو نعتقد أننا أصبحنا أخيراً في أمان، يقف شعور الاغتراب في مكان ما من دواخلنا ينغص ليلنا ويوقظنا لنفكر في خطوة جديدة للتخلص من ذلك الأرق

لم يعد الاستقرار يعني لنا مسكناً وملبساً ودفئاً فقط ـ مع أن هذه الأساسيات يفتقدها نصف السوريين المهجرين في الخيام ويستكثرها علينا نصف العالم لأننا باعتقادهم أوصلنا بلادنا إلى حالة يرثى لها من الدمار ـ إن الاستقرار في حالة التهجير التي تعاني منها الشعوب التي عايشت الحرب ينشد عالماً غير عنصري لا يتعامل معنا على أننا زيادة غير قابلة للتقبل، ويحلم بحياة اجتماعية طبيعية لا يستكثر فيها النازيون الجدد علينا مقدار الأوكسجين الذي نستهلكه.

لكن ذلك يبدو أنه أصبح حلماً بعيد المنال ورغبة غير قابلة للتحقق، ففي كل مرة نحاول أن نتنفس فيها الصعداء أو نعتقد أننا أصبحنا أخيراً في أمان، يقف شعور الاغتراب في مكان ما من دواخلنا ينغص ليلنا ويوقظنا لنفكر في خطوة جديدة للتخلص من ذلك الأرق، فنعاود حالة الضياع نجلس على حقائبنا وتفكر في النزوح الجديد.

ما زلنا نعجز مراراً عن التعبير عن أنفسنا، نمنع أصواتنا من الصراخ والبكاء والرفض لأننا أعجز من أن نغيّر الواقع، فنمسك بأنفسنا متلبسين في لحظات الخوف المعتادة للخارجين للتوّ من مجزرة، نرفض الانصياع إلى العالم متمسكين بقشة النجاة، تلك ذاتها التي يتمسك بها الهاربون من الغرق.

المشكلة أن التاريخ يعيد نفسه وأن النازحين والمهجرين في أطراف العالم اليوم قد يعتقدون أنها مرحلة عابرة وأنها مدة وجيزة ثم سيعود كل شيء إلى ما كان عليه قبل تلك اللحظة الفارقة، لكننا نعرف بعد أن سبقناهم في التجربة أن ذلك محض أمل غير أننا لا نستطيع الحياة من دونه.