لماذا يكره بشّار الليبراليّة؟

2023.05.26 | 06:05 دمشق

آخر تحديث: 26.05.2023 | 06:05 دمشق

لماذا يكره بشّار الليبراليّة؟
+A
حجم الخط
-A

يولد الإنسان حرّا: هكذا قال الليبراليون، ثم أيّدت نتائج العلم التجريبي أنّ طبيعة الملوك والسلاطين والقادة التاريخيين وأبنائهم لا تختلف عن طبيعة عامّة الشّعب فقال فلاسفة العلم الحديث: إنّ الإنسان حرّ بطبيعته؛ وسواء أتبنّت الدولة الحديثة نهجا جمهوريّاً يستلهم مبادئ "الحريّة والمساواة" من العِلم، أو يستلهم تلك المبادئ من الموروث الديني والاجتماعي والعِلمي كما تميل الدول الليبراليّة؛ فإنّ كلا نموذجي الدولة الحديثة تم بناؤه على "حريّة: سلطة إرادة" الإنسان العادي، حيث تستمد الحكومة شرعيّتها عبر الديمقراطيّة منه، وتتجه تلك الحكومة إلى تحقيق "حقوقه المدنيّة": كالحياة والأمن والعمل والتملك وحريّة التعبير.. إلخ.

ومنذ نشوء الدولة السوريّة الحديثة تعدّدت محاولات بناء شرعيّة السلطة المدنيّة إذ مال بعض المفكّرين كأنطون فرح وشبلي الشّميل وغيرهم نحو العلمانيّة ومال آخرون كبطرس البستاني ومحمد عبدة وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهم إلى الليبراليّة؛ إلّا أنّ كلا الفريقين بحث عن صياغة مفاهيم مشتركة لـ "الحريّة والمساواة".

مدنيّا: لم تكن علّة عدم شرعيّة "الانتداب الفرنسي" مثلا متأتية من كونه ساهم بالإطاحة بسلطة السلطان العثماني -هذا يقوله فريق لم يؤمن بالقضيّة المدنيّة بعدُ- بل لأنّ الانتداب كان وصاية على "حريّة: سلطة إرادة" الإنسان السوري الحر بطبيعته أو الذي يولد حرّا؛ وخلال فترة الانتداب الفرنسي على سوريا وما بعده ظهرت المفاهيم "الجمهوريّة" التي حاولت تأكيد "الحقوق المدنيّة" عبر الديمقراطيّة العلمانيّة، وظلّ المجتمع المدني بحالة مقبولة نسبيّاً حتّى قيام الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958 -والتي رأى بعظهم أنّها محاولة من الرئيس شكري القوّتلي للحيلولة وقتها دون تسلم العسكر في سوريا زمام السلطة- إلا أنّ الانفصال بين الدولتين تحقق بعد سنتين فقط، واستولى الانقلاب العسكري في 8/ آذار/ 1963 على السلطة، ففرض قانون الطوارئ -رفع القانون والحقوق المدنيّة - ووضع المجتمع والدولة في قبضة الحاكم العرفي؛ ثمّ لم يلبث أن أطاح حافظ الأسد بزملائه واستولى بمفرده على السلطة بعد ما يعرفُ بالحركة التصحيحيّة عام 1970.

كل مفاهيم العروبة التي صاغها المفكرون المؤسسون عن المساواة بين أحمد شوقي المسلم المصري من أصول كرديّة وبين الأخطل الصغير المسيحي العربي لم تتمكّن من إقناع سلطة الأسد بمساواة أفراد البعث ذاته في اليمين واليسار

إلى المعسكر الشرقي غير الليبرالي يميل القادة الذين لم يكتسبوا السلطة بطريقة ديمقراطيّة وهذا ما فعله حافظ الأسد فأحاط سلطته بـ "جبهة وطنية تقدمية" من المؤمنين بأن "الحريّة والديمقراطيّة" ما هما إلّا مؤامرتان غربيّتان تستهدفان النيل من الثوابت الوطنيّة وقضايا الأمّة ونحو ذلك من الوعي الذي يسكن في مكان ويدافع عن مصالح مكان آخر فيساند بطبيعة الحال سلطة ظلّ الشّعب السوريّة مرغماً يحتفل لعقود بانتصارها على حقوقه المدنيّة!

قد لا يكون دقيقا أن نسمّي تلك السلطة بالعلمانيّة ولا بالعروبيّة: فكل مفاهيم العروبة التي صاغها المفكرون المؤسسون عن المساواة بين أحمد شوقي المسلم المصري من أصول كرديّة وبين الأخطل الصغير المسيحي العربي لم تتمكّن من إقناع سلطة الأسد بمساواة أفراد البعث ذاته في اليمين واليسار؛ وكلّ العلمانيّة الديمقراطيّة التي يتأسس عليها التيار الاشتراكي الغربي لم تُفلح في اتخاذ موقف علماني في برلمان "الجمهوريّة العلمانية الديمقراطيّة" يوم صدّق على تغيير الدستور ليرث الابن سلطة الأب عام 2000!

ورغم أنّ تجربة "السوق الحرّة" في عهد بشّار الأسد لم تكن حقيقيّة تماماً -إذ كان على المستثمر الداخلي والخارجي أن يشارك السلطة- إلّا أنّ مفهوم السوق بحد ذاته لا يقتصر على التبادلات الماليّة فحسب بل الثقافة أيضا؛ ولعلّ الفضل في إنجاز ذلك الانفتاح الثقافي النسبي في سوريا ما بين 2000 حتى 2011 إنما يعود إلى رياح العولمة القادمة -رغم أنف السّلطة- من خلف الحدود عبر "الدش" ثم الإنترنت، وفيما أيقظ الانفتاح الثقافيّ والاقتصادي كرامة إنسان وُلِد حرّا وهو حرّ بطبيعته كما يؤكّد الليبراليّون والديمقراطيّون؛ فإنّ مصالح السلطة السياسيّة الوصيّة والوريثة كان لابدّ وأنْ تتناقض مع مصالح السوريين، فاندلعت ثورة الحريّة عام 2011 ثم أعلنت السّلطة رفع حالة الطّوارئ بعد أشهر قليلة!

ورغم أنّ منطق الدولة الحديثة في العالم كلّه يؤكّد أنّ الشعب الذي يثور لـ "حريّته: سلطة إرادته" بعد خمسين سنة من غيابها لابدّ وأنّ يريد الليبراليّة والديمقراطيّة؛ إلّا أنّ لا منطقيّة سلطة تتحكّم بمقدّرات شعب ومؤسّسات دولته لنصف قرن فرضت مصالحها بالقوّة: فظلّ نظام العصابة يفتك بالسوريين ويستدعي الإرهاب حتى أصبح الإرهاب حقيقة مؤلمة تجثم على صدور من أرادوا الحريّة!

لا يوجد تعريف عالمي واحد للإرهاب؛ إلا أنّ الدول تتجه إلى تعريف ما يهدد أمنها ومصالحها بالإرهاب؛ وفيما أنّ: شرعيّة السلطة في الدول تستند إلى "حريّة ومساواة" مواطنيها وتتجه لتحقيق مصالهم وأمنهم؛ كما تفعل دول الخليج حقيقة والتي رغم أنّها غير ديمقراطيّة إلّا أنّها توفّر لشعوبها الرفاهيّة وتسعى إلى الانفتاح والتنمية على أقلّ تقدير؛ فإنّ سلطة الوصي الوريث وانطلاقا من مصلحتها المناقضة لمصلحة السوريين تعرّف الإرهاب بأنّه ما يهدد أمنها ومصلحتها هي، فتدافع عن مصالح الصين وروسيا في عالم متعدّد الأقطاب، وتزوّر حضور مصالح السوريين وتدافع باسمهم عن مصالح النّظامين الروسي والإيراني اللذين فتكتا بالسوريين؛ فظلّ تناقض المصالح التي تُدافع عنها سلطة الأسد مع مصالح السوريين أحد أبرز مظاهر لا شرعيّة سلطته!

تأثر برنامج عمل القمة العربيّة الـ 32 للغاية برؤية السعوديّة 2030 حول الانفتاح والتنمية، وبالمخاطر الأمنيّة المحيقة بتلك الرؤية، وبسوريا كبؤرة غير مستقرّة يمكن أن تعيق مشاريع تلك البلدان؛ في حين انتهز بشّار الأسد الفرصة لإلقاء خطاب رومانسي إلى الجماهير العربيّة باللغة ذاتها التي ملّها السوريّون عن خطورة الليبراليّة الجديدة على العروبة والهويّة فدمج بين مصالحه كسلطة أمر واقع وبين مصالح السوريين حتى كدتُ -لو أنني مواطن مغربي أو أفريقي أو مغترب- أن أصدّقه!

واظب بشّار الأسد على التحذير من الليبراليّة قديمها وحديثها بوصفها انفتاحا اقتصاديّا يمكن أن يزاحم تفرّده -عبر آل مخلوف أو آل الأخرس- بامتلاك شركة اتصالات يسمّيها الأسد وطنيّة لا لأنّها تحقق مصلحة السوريين بل لأنها تعود على رأس النظام بالفائدة؛ لكن هل قضيّة النظام هي قضيّة السوريين بالفعل؟!

النظام الذي أباح سوريا لإيران لا مصلحة حقيقيّة له في حماية الهويّة؛ بل بإبعاد الليبراليّة التي تذكّر الناس أنّهم أصحاب السلطة المدنيّة الشرعيّة التي يستولي عليها الحاكم العُرفي بذريعة حماية الهويّة والقضايا المصيريّة

ما الفرق بالنسبة للسوريين بين أنّ تنحصر ملكيّة شركة ما على مالك سوري -قريب للنظام غالبا- وبين أن يحدث تنافس بين الشركات والملّاك على تقديم الخدمات؟!

كما تهدد الليبراليّة بالفعل الانغلاق الهويّاتي وتشجّع على الانفتاح؛ إلّا أنّ النظام الذي أباح سوريا لإيران لا مصلحة حقيقيّة له في حماية الهويّة؛ بل بإبعاد الليبراليّة التي تذكّر الناس أنّهم أصحاب السلطة المدنيّة الشرعيّة التي يستولي عليها الحاكم العُرفي بذريعة حماية الهويّة والقضايا المصيريّة؛ صدّقوا تلك السلطة وهي تلقي خطابا رومنسيّا عن كل القضايا المصيريّة لكن لا تصدّقوا أن يكون لها مصلحة لا في تحقيق تلك القضايا المصريّة ولا في تجاوزها لأنّ ذلك يعني أن تفقد تلك السّلطة ذريعة وجودها!

حتى الطبيب الفاسد يمكن أن يكون له مصلحة في التعاقد مع صيدليّة -روسيّة أو إيرانيّة مثلا- على نسبة ربح من تجريب سلاح ما أو بيع دواء طائفي؛ فيشخّص ذلك الطبيب الفاسد داءً مناسباً للدواء؛ كأنّ يشخّص إرادة السوريين للحريّة إرهاباً، ويتحالف مع الإرهاب الذي يؤمّن له نسبة ربح أكبر!

بالمقابل: سيظلّ الألم يصرخ بالحقيقة: أنْ لا شفاء للمريض أو لصداع العالم دون حريّة سوريّة تنتج عبر الديمقراطيّة حكومة وسلطة مدنيّة تمثّل مصالح السوريين وتدافع عنهم.