icon
التغطية الحية

لماذا يا وزير الثقافة؟

2025.09.19 | 11:46 دمشق

567567
جمال أتاسي
+A
حجم الخط
-A
إظهار الملخص
- بعد إسقاط نظام الأسد، يقود وزير الثقافة محمد ياسين صالح تحولاً ثقافياً في سوريا، مبتكراً نموذجاً جديداً للنقد الحر والتفاعل مع المواطنين عبر مبادرات مثل "أربعاء حمص" و"الحافلة الثقافية".

- يواجه صالح تحديات وانتقادات، لكنه يواصل تعزيز الثقافة السورية من خلال زيارات ميدانية ودعم الفنون وتكريم الأدباء والمفكرين، مما يعكس التزامه بتغيير دور وزارة الثقافة التقليدي.

- يسعى صالح لتعزيز الثقافة كقوة ناعمة وأداة للأمن القومي، بدعم الحرف التقليدية واستقطاب الكفاءات الثورية، مؤكداً أن الثقافة ركيزة وطنية وحصانة للمستقبل.

مع التغيير الذي شهدته سوريا بإسقاط نظام الأسد، وإنشاء حكومة جديدة وضعت على كاهلها مواجهة عملية إعادة بناء البلاد والمؤسسات، ومواصلة دور سوريا في الإقليم والعالم، والعناية بالشعب السوري بنازحيه ومدنه وقراه المدمّرة، أخذ المشهد الثقافي السوري يعاين حراكاً غير مسبوق، قاده وزير ثقافة يسعى لابتكار نموذج متكامل يعيد للثقافة دورها بوصفها رافعة وطنية، بالتوازي مع حراك نقدي حرّ له الأحقية في طرح السؤال "لماذا؟" على كل مسؤول دون استثناء.

غير أن ذلك النموذج المركّب الذي يقدّمه الوزير محمد ياسين صالح لا يبدو أنه يسير من دون منغّصات، بعضها يستهدف الوزير ذاته، عبر تسقّط تصريحاته ومواقفه تارة، وتأويلها باتجاه سلبي من قبل البعض، أو اتهام وتفسير قراراته وتعييناته على نحو غير معقول تارة أخرى، والحق أن متابعة ونقد مسار الوزير الصالح، كمتابعة غيره من المسؤولين، أمرٌ جديد لم تألفه الساحة السورية التي اعتادت على قبول كل ما تأتي به الحكومة، أو رفضه من جذوره.

لكن الوزير الصالح يتحمّل مسؤولية تقديم هذا النموذج من العمل الحكومي، الذي يتيح بفعل حركته المستمرّة لمن يريد المتابعة، غير مكترث بالأقاويل والحملات والثرثرة، ما لم تكن نقداً موثقاً يحمل هدفاً للصالح العام.

فعلى مستوى التفاعل مع المواطنين، كسر الوزير القاعدة التقليدية بالاكتفاء بالتكريم المعنوي لمن يستحقون التكريم، فطرح نموذج التكريم المادي كرسالة تقدير حقيقية للمبدعين، وجعل من “أربعاء حمصحالة ثقافية أصيلة تحولت إلى عدوى إيجابية تغزو المحافظات واحدة تلو الأخرى.

وجاء إطلاق "الحافلة الثقافية" كفكرة أنزلت الثقافة من أبراجها إلى كل قرية وحي وحارة، لتبرز رؤية الوزارة التي ظهرت أيضاً في حملات نظافة عامة أُنجزت بروح جماعية، لم تقتصر على المواقع الثقافية والأثرية، وإنما شملت الشوارع والزوايا، لتجعل من موقع الوزير موقعاً بسيطا وفي افتتاح المكتبة الوطنية التي باتت عنواناً لاستعادة الذاكرة المعرفية. وقد حصد جناح الوزارة في معرض دمشق الدولي لقب الأجمل، ليعكس هوية سوريا الثقافية أمام العالم.

ومع ذلك توجّه لوزارة الثقافة انتقادات حول نشاطها في تفعيل الحياة الثقافية السورية، ربما بسبب اعتياد السوريين على وزارات متعاقبة لم تفعل شيئاً سوى الاكتفاء بمساندة النظام البائد ككتيبة ثقافية غير مسلحة، لكنها مدججة بالتوجيه السياسي. فلماذا يا وزير الثقافة تريد تغيير هذا الدور؟

***

"قلعة حلب" التي تنقصها الحراسة، كحال بقية المواقع الأثرية السورية ذات المكانة العالمية، طلب وزير الثقافة من المعنيين توظيف حراس لها وتكفّل بتقديم مرتباتهم، على وجه السرعة، فلماذا تريد حماية الآثار السورية من النهب يا وزير الثقافة؟

لم تهدأ الزيارات الميدانية للوزير إلى دير الزور ودرعا وحماة وحمص وحلب وإدلب ودمشق وريفها، وفي دمشق رعى تظاهرة أفلام الثورة، ودعم المسرح، وأقام أكبر أمسية شعرية في تاريخ سوريا، وعمل على تمكين الشباب وجعلهم شركاء في القرار الثقافي. كما أشرف على صياغة افتتاح معرض دمشق الدولي بالصورة التي ظهر عليها، وأعاد الروح لقصر العظم، ودعم الزي السوري والقهوة السورية والمطبخ السوري واللهجة السورية والأغنية السورية، ونظّم معارض للفنون البصرية، وحقق مشاركة غير مسبوقة لسوريا في بينالي البندقية. فلماذا يا وزير الثقافة تضيّع وقت السوريين بهكذا اهتمامات؟

الرؤية الثقافية الشاملة التي تتقدّم في الخارطة السورية كقوة ناعمة تعيد الاعتبار للمثقف والمبدع والمكان السوري وتؤسس لثقافة حية فاعلة تتنفس في كل بيت وزقاق وتؤكد أن الثقافة ليست ترفاً بل ركيزة وطنية وحصانة للمستقبل

ما تحمله لغة الوزير وتصريحاته تعكس شخصية مثقفة وطنية واعية بالضرورات، ترى الثقافة جزءاً من الأمن القومي كما وصفها، لا باعتبارها مهمة أمنية داخلية كما كانت تفعل وزارات ثقافة الأسدين، لكن مسألة أمن قومي عربي لا يخص سوريا وحدها، وهو ما ظهر جلياً في زيارته لعفرين حيث أكد الأكراد أنهم في عيون الدولة، وتحدّث معهم باللغة الكردية، وهي رسالة احترام للثقافة الكردية انطلاقاً من احترام لغتها. فلماذا يا وزير الثقافة تبعث بهكذا رسالة وطنية تقض مضجع الانفصاليين وتنسف طروحاتهم العنصرية؟

دعم الحرف التقليدية، وزيارة عوائل الشهداء في المعضمية والميدان، وتقديم دعم واسع لمدراء الثقافة في المحافظات، وإعادة المفصولين من وظائفهم بسبب انتمائهم للثورة إلى مواقعهم، كل هذه سلوكيات وقرارات يرى البعض أن وزير الثقافة كان لا يجوز له أن يُقدم عليها، فلماذا يا وزير الثقافة تتحدى رؤية هؤلاء وتنصف من تعرضوا للظلم؟

***

الرؤية الثقافية الشاملة التي تتقدّم في الخارطة السورية كقوة ناعمة، تعيد الاعتبار للمثقف والمبدع والمكان السوري، وتؤسس لثقافة حية فاعلة تتنفس في كل بيت وزقاق، وتؤكد أن الثقافة ليست ترفاً بل ركيزة وطنية وحصانة للمستقبل.

الوزير الصالح لا يسمح لمكتبه الصحفي بالتحدّث عن العطاءات المالية التي يبذلها وفي كثير من الأحيان يمنع تصويرها، كما رأيت بنفسي في حالة المرأة المسنة في دير الزور وأطفال تدمر، ولا يكف عن استقطاب الكفاءات الثورية من شباب وبنات التنسيقيات والثورة الذين صاروا من أركان الثقافة في المديريات. ولعل البعض يريد منه أن يواصل على نهج سابقيه في تعيين الأقارب وتصدير الشخصيات ذات الطابع الطائفي والأمني الذين غزوا أركان وهياكل وزارة الثقافة وغيرها من الوزارات خلال ستين سنة مضت.  فلماذا يا وزير الثقافة تتجرأ وتغيّر القواعد، وما هي أغراضك الشخصية من وراء ذلك؟

ما الذي تخفيه زيارات الوزير في السر والعلن لسوريين من مثل شقيق عبد الباسط الساروت وغيره؟ وما سرّ تواصله مع أم الشهيد غياث مطر ومن قبلها مع أسرة الشاعر الراحل حسّان عزّت لواجب التعزية والتعهّد بتكريمه وإعادة طباعة أعماله؟ وما هي الأجندة الخفية وراء اجتماعات الوزير مع علماء سوريا ومفكريها ومناضليها واستقباله لهم وفتح الباب أمام المشاركة الأهلية في العمل الحكومي؟

يكرّر الوزير الصالح عبارة ارتبطت به في كل مقابلة (ما فاتنا إدراكه اليوم، لا يفوتنا استدراكه غدا) هو يعمل لسد الثغرات الثقافية ودعم السلم الأهلي، مدركاً الخيط الذي يربط السياسة بالثقافة.

إصدار سلسلة من الكتب المطبوعة عن وزارة الثقافة تحت عنوان "أدب الثورة" معنية بالرواية والشعر والمسرح والفكر، بعد الاتفاق مع الكتّاب وتكريمهم على دورهم الكبير خلال سنوات الثورة، مشروع يبدو أنه سينغّص على الفلول ومثقفي النظام البائد والشلل الثقافية، فلماذا تريد تكريم أدباء ومفكري الثورة والعناية بإنتاجهم الإبداعي يا وزير الثقافة؟

أخيراً سأسأل الوزير سؤالاً شخصياً هذه المرة، عن سبب تركه موقعه السابق في قطر والراتب الذي كان يتقاضاه هناك، والقدوم الى سوريا للعمل براتب لا يصل إلى عشرة بالمئة مما سبقه، فلماذا يا وزير الثقافة؟ وكل تلك الأسئلة وجدتُ أنه من الإنصاف طرحها في هذه اللحظة المفصلية من تاريخ سوريا، ما دمنا قد منحنا لأنفسنا الحق بأن نواكب عمل الحكومة السورية الحالية بالنقد والتصويب، وسنطرح الأسئلة ذاتها على بقية الوزراء باستمرار، لنحاول رصد نشاطهم سواء كان إيجابياً أم سلبياً.