لماذا لم يحسم أردوغان الانتخابات الرئاسية من المرة الأولى؟

2023.05.16 | 13:56 دمشق

لماذا انتقلت الانتخابات الرئاسية التركية لجولة ثانية؟
+A
حجم الخط
-A

للمرة الأولى في تاريخها بلغت نسبة الإقبال على الانتخابات التركية الأخيرة التي جرت قبل يومين ما نسبته 88.92 % من العدد الكلي للناخبين الأتراك، وهي سابقة لم تحصل من قبل ليس في تركيا وحدها، بل وفي دول عريقة في الديمقراطية كالولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وغيرهما من الدول ذات التجربة الديمقراطية المتجذرة في تاريخها الوطني والسياسي.

وتشير تلك النسبة من الإقبال والمشاركة عادة إلى وعي مجتمعي بأهمية تلك المشاركة وخاصة في الانتخابات التي تراها المجتمعات أنها مفصلية في تاريخها لكونها ربما تمثل وسيلة لخلق عملية تحول كبرى في السياسات التي يجب أن تستجيب لقضايا كبرى تواجهها الدولة، ويتعين على السلطة فيها إيجاد أجوبة وحلول لها وتطرحها في برنامجها الانتخابي ليعقد الناخبون مقارناتهم ومقارباتهم بينها وبين ما تطرحه الأحزاب الأخرى المناهضة لهذا النهج من برامج تعتقد أنها تستجيب لحاجات الدولة والمجتمع وأصوات الناخبين.

وربما تشير النسبة المرتفعة للإقبال على صناديق الانتخاب أيضا إلى أن حالة الاستقطاب السياسي بين رؤيتين ونهجين في الحكم والسياسة على تضاد كبير فيما بينهما، قد بلغت مبلغا لم يعد من الممكن أن يجدا مساحة تلاق وتوافق بينهما على الأقل في نطاق السياسات الكبرى والاستراتيجية للدولة، فتكون أصوات الناخبين هي السبيل لتحديد الغلبة بين أحد هذين النهجين أو الرؤيتين.

الرسالة الأولى لحزب العدالة والتنمية والتحالف الحاكم أنه لم يعد مقبولا أن تستمر بنفس آلية الأداء ونسق السياسات التي نجحت قبل سنوات

هذا تماما ما عبرت عنه الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة في تركيا، بل وهذا تماما ما عكسته نتائجها وخاصة في شقها الرئاسي التي لم تعط أرجحية ملحوظة لأي من المرشحين الرئيسيين، وكأن لسان حال الناخب التركي يقول لكليهما: "حسنا هذا ليس شيكا على بياض، ولن تحصل منا على تفويض غير محدود يتبنى نهجك وسياساتك بالمطلق"، فالنتيجة التي لم يتجاوز فيها أي من المرشحين عتبة النصف من أصوات الناخبين وألزمهم بإجراء جولة ثانية للانتخابات الرئاسية تعقد بعد أسبوعين تماما من الأولى كانت رسالة بليغة لكليهما أن ثمة مطالب واستحقاقات بل ومراجعات جوهرية في العمق يتعين عليكما التعاطي معها وتقديم إجابات لنا بشأنها قبل أن نعطي الأرجحية لواحد منكما.

الرسالة الأولى لحزب العدالة والتنمية والتحالف الحاكم أنه لم يعد مقبولا أن تستمر بنفس آلية الأداء ونسق السياسات التي نجحت قبل سنوات، وأن المراهنة على تراكم الإنجازات على أهميتها لا تكفي لتبقى في السلطة فثمة أزمة اقتصادية صارت تحتاج لمداخلات جراحية حقيقية ليتمكن الجسد الاقتصادي من التعافي، وثمة جيل من الشباب يريد سياسات جديدة ومختلفة تستجيب لاحتياجاته في فرص عمل وأجور كريمة ويريد مساحة حريات عامة أكبر وفرصا سياسية أكثر وأشمل وهو ما يوجب إجراء مراجعات في العمق للسياسات الكلية التي تديرون بها الدولة.

والرسالة الثانية لحزب الشعب الجمهوري وحلفائه مفادها أن السعي للوصول إلى السلطة وإن كانت حقا مشروعا لكم فإنها لا تتم بتهشيم كل شيء وكل إنجاز، ولا يجوز أيضا أن تتم بالتحالف مع قوى وأحزاب لا تقيم وزنا لسلامة الجمهورية وسلامها المجتمعي على المستوى الوطني وتتخذ من "الإرهاب" وسيلة لذلك، كما لا تكون بالالتحاق الأعمى بالقاطرة الغربية والامتثال الكلي لسياساتها وشروطها التي تكون أحيانا أو غالبا على الضد من المصالح الوطنية التركية العليا.

التجربة الديمقراطية في تركيا مع عبورها المئوية الأولى لتأسيس الجمهورية تجذرت وترسخت كقيمة وكوسيلة لإدارة الصراعات السياسية، ونزول الشعب إلى الشوارع في تموز 2016 لمواجهة الدبابات التي أرادت سلبه حقوقه الدستورية توكيد على ذلك، كما أن الوصول إلى إجراء جولة ثانية للانتخابات الرئاسية عجز المرشحين فيها عن تجاوز العتبة الدستورية المحددة لتولي المهام الرئاسية من الجولة الأولى، تؤكد أن ثمة من يمحص ويدقق قبل أن يلقي بورقة الاقتراع في الصندوق الشفاف.

تنص المادة 101 ف 5 من الدستور التركي على أنه: (يتم انتخاب المرشح الذي يحصل على الأغلبية المطلقة من الأصوات الصحيحة في عملية التصويت العام (أكثر من 50%( رئيسًا للجمهورية. وإذا تعذر حصول أحد المرشحين على الأغلبية المطلقة في الجولة الأولى، تقام جولة ثانية يوم الأحد التالي بعد هذا التصويت، ويشارك فيه المرشحان الحاصلان على أكبر عدد من الأصوات في الاقتراع الأول، وينتخب المرشح الذي يحصل على الأغلبية المطلقة من الأصوات الصحيحة رئيسًا للجمهورية).

وتبلغ مدة ولاية الرئيس المنتخب خمس سنوات ولا يسمح الدستور بانتخاب الشخص نفسه لأكثر من ولايتين دستوريتين على الأكثر (مادة 101 ف 2 ).

ولكن ماذا لو انسحب أحد المرشحين الحاصلين على أعلى نسبة أصوات في الجولة الأولى والمؤهلين لخوض الجولة الثانية من الانتخابات عن خوض تلك الجولة؟ وهناك الآن همهمات في صفوف بعض قيادات الصف الأول لحزب الشعب الجمهوري تدعو لانسحاب كمال كليتشدار أوغلو من خوض الجولة الثانية (!) وعلى الرغم من استبعاد مثل هذا الخيار سياسيا وعدم تصور حصوله واقعيا، فإن الدستور عالج مثل تلك الحالة إن حصلت حيث نصت الفقرة 6 من المادة 101 على أنه: (في حال عدم مشاركة أحد المرشحين الاثنين الحائزين على حق الترشح للجولة الثانية لأي سبب من الأسباب، يشارك بدلًا منه المرشح الحاصل على الترتيب الثالث في الجولة الأولى، أما في حال بقاء مرشح واحد فقط للجولة الثانية، يجري التصويت على شكل استفتاء. وإذا حصل المرشح على أغلبية الأصوات الصحيحة يتم انتخابه رئيسًا للجمهورية، أما في حال عدم حصوله على أغلبية الأصوات الصحيحة فيتم تجديد الانتخابات الرئاسية فقط).

ويتمتع رئيس الجمهورية بسلطات واسعة بعد الانتقال إلى نمط النظام الرئاسي فهو رأس الدولة الذي يتولى مهام السلطة التنفيذية بها وهو يمثل وحدة الأمة التركية، ويضمن العمل بالدستور واحترام أحكامه، كما أنه يعين الوزراء ويقيلهم، ويعين ويقيل المسؤولين التنفيذيين رفيعي المستوى في مؤسسات الدولة العامة، ويصدر مرسوما رئاسيا ينظم الإجراءات والمبادئ التي تحكم تعيينهم وإقالتهم.

ويمثل رئيس الجمهورية منصب القائد العام للقوات المسلحة باسم مجلس الأمة التركي الكبير (البرلمان) وهو صاحب قرار استخدام القوات المسلحة، وتحدد سياسات الأمن القومي وهو بطبيعة الحال من يسمي ممثلين عن الجمهورية التركية إلى الدول الأجنبية، ويستقبل ممثلي البعثات الأجنبية إلى تركيا ويصادق على المعاهدات الدولية ويوافق على نشرها (الفقرات 1 و2 و8 و9 و10 و11 من المادة 104 من الدستور).

أما على صعيد البرلمان فقد تمت الانتخابات له – بالتوازي مع الانتخابات الرئاسية بورقة ثانية توضعان في ظرف واحد) وفق قانون الانتخابات المعدل بعد الانتقال للنظام الرئاسي والذي خيضت به أيضا انتخابات العام 2018 حيث اشتمل التعديل حينها على 14 بندا أبرزها خفض العتبة الانتخابية أمام الأحزاب الصغيرة من 10 إلى 7 % من الأصوات بما يتيح لهذه الأحزاب من خوض الانتخابات ودخول البرلمان بعد أن كان البرلمان ناديا مغلقا على أربعة أحزاب كبرى، كما اشترط القانون بالمقابل أن يحقق الحزب – أي حزب – تلك العتبة بأصواته هو في كل دائرة انتخابية على حدى وليس عبر تحالف مع أحزاب أخرى لكن تعديلا دستوريا برقم 7393 لتعديل قانون الانتخابات وبعض القوانين الأخرى جعل من إمكانية خوض الأحزاب السياسية العملية الانتخابية على شكل تحالفات عملية متاحة وممكنة.

عدد معقول من السوريين المجنسين بالجنسية التركية مارسوا للمرة الأولى في غالبيتهم حقهم الدستوري بانتخابات الرئاسة التركية وكذلك في اختيار ممثليهم للانتخابات البرلمانية

ويعتقد مركز "سيتا" للدراسات في أنقرة أن خفض العتبة الانتخابية في التعديل الأخير ليس ضد الأحزاب الصغيرة، ولكنه لصالحها، وأن التحالفات لا تزال إلزامية للأحزاب الصغيرة لعبور العتبة، والجدير ذكره أن الأحزاب الصغيرة المنضوية في تحالف الطاولة السداسية قررت خوض الانتخابات ضمن قائمة مشتركة موحدة مع حزب الشعب الجمهوري، في حين فضل حزب الجيد خوض الانتخابات بقوائمه الخاصة مع التعاون مع "الشعب الجمهوري" في بعض الدوائر.

ورغم أن عددهم لا يمثل قيمة فارقة في العملية الانتخابية فإن عددا معقولا من السوريين المجنسين بالجنسية التركية مارسوا للمرة الأولى في غالبيتهم حقهم الدستوري بانتخابات الرئاسة التركية وكذلك في اختيار ممثليهم للانتخابات البرلمانية، حيث بلغ عدد من يحق لهم التصويت في الانتخابات أقل من 127 ألف ناخب بقليل من أصل حوالي 224 ألف سوري مجنس تقريبا وفق تصريح لوزير الداخلية التركي أواخر العام 2022.

وقد عزف مع الأسف عدد ممن يملكون حق التصويت عن ممارسة حقهم الدستوري وأداء واجبهم الانتخابي عن التصويت لأسباب مختلفة لا مجال لبحثها في هذا المقال.. لكن ذلك بالقطع يؤشر إلى وجود اعتلال نفسي في فهم وإدراك قيمة الصوت الذي تدلي به - بصرف النظر عن وجهته – يحتاج لمساحة من الزمن للتعافي منه والانتقال من مرحلة دولة الرعية إلى ضفة دولة المواطنة.