لماذا لا تقوم ثورة في لبنان؟

2019.02.09 | 23:34 دمشق

+A
حجم الخط
-A

نجح بابلو أسكوبار، زعيم "كارتيل" المخدرات في كولومبيا، بإقناع فقراء مدينة ميديلين وأريافها، أن أرباحه من تجارة الكوكايين إنما تعود بالنفع عليهم، وتنقذهم من فقرهم المزمن في بلد يستشري فيه الفساد واللاعدالة الاجتماعية. وراح أسكوبار ينشئ جمعيات خيرية، ويبني مجمعات سكنية لبعض العائلات المشردة، بالترافق مع إنشائه لعصابة مسلحة ضمت الآلاف من الشبان العاطلين عن العمل.

وفي سنوات قليلة بات يحوز ثروة تقدر بحوالى 30 مليار دولار (ما يوازي قيمة 54 ملياراً عام 2006). وتحول رئيس المنظمة الإجرامية إلى شخصية شعبية وسياسية، ما خوله دخول البرلمان متسلحاً بنفوذ هائل على عدد من السياسيين، وداخل الأجهزة الأمنية والجيش والجسم القضائي. وسرعان ما صار "بطلاً" في نظر سكان الضواحي والأرياف المهملة، يندفع الكثير من الشبان للموت من أجله، فيما هو يوزع العطايا ويمنح التبرعات بسخاء.

ترتب على صعود أسكوبار، وأمثاله، اختلال عميق في المجتمع وفي الدولة، كما في الاقتصاد والأمن العام.. أقلّه تعميم الفساد القيمي والأخلاقي، بالتوازي مع استشراء فظيع للعنف وللإفلات من العقاب.

نظام "الرشوة" الواسع النطاق الذي قام بين "كارتيل" ميديلين والمجتمع الكولومبي، أخرج فئات واسعة من المواطنين الفقراء على الدولة والقانون بما هدد مفهوم المواطنة ومرجعية الدولة ودستورها، وصدّع العقد الاجتماعي السياسي الذي يقوم عليه الكيان الوطني.

لبنان الذي يتميز بين الأنظمة العربية بتعدد "الكارتيلات" وفق تعدد الطوائف

استدعاء "أمثولة" أسكوبار هنا، ليس مبالغة في مقاربتنا النظام السياسي في بعض الدول العربية، في سوريا مثلاً، وبالأخص في لبنان الذي يتميز بين الأنظمة العربية بتعدد "الكارتيلات" وفق تعدد الطوائف. والسيء في الأمر، أن كولومبيا استطاعت التخلص من نموذج أسكوبار بعد حرب استمرت لنحو عشر سنوات، في حين أن نموذجه العربي (واللبناني) هو الذي استولى على الدولة نفسها. هو الذي بات مثال السياسي المنتصر والمتسيد، كما هو رأس الاقتصاد..

في سوريا، أقنع كارتيل آل الأسد معظم طوائف "الأقليات"، مضاف إليها طائفة من التجار ورجال الأعمال، وطيف واسع من الباحثين عن الحماية والانتفاع والتربح، أن مصلحتهم تقتضي بخيانة الدولة والمجتمع ومنح الولاء للعصابة المستولية، والالتحاق بنظام الفساد والنهب والمصادرة، والركون إلى العنف والقتل سبيلاً لتوطيد سلطة إجرامية، تحتكر الثروات وتراكمها، وتوزع منها فتات المغانم على أتباعها. لينقسم السوريون إلى فئة منتفعين ستنعدم مصالحهم إن فقدت عصابة الأسد سلطتها، فيقاتلون حتى الموت دفاعاً عنها.. وفئة من المستَغلين والمنهوبين والمسلوبي الحقوق. وليس أدق في هذه الحال من توصيف ياسين الحاج صالح الشهير: "السوريون البيض والسوريون السود".

في لبنان، يغدو الأمر أكثر تعقيداً. فالنظام السياسي يرتكز أساساً على الاعتراف بـ"حقوق الطوائف" بوصفها جماعات سياسية (وليست فقط جماعات ثقافية دينية). ويترتب على هذا الاعتراف، وفق دستور "الجمهورية الثانية" (اتفاق الطائف 1989)، ووفق أعراف وتقاليد لها قوة الدستور، مبدأ أولاً هو "المناصفة" في السلطة بين المسيحيين والمسلمين. وعليه، يقوم تفاهم مكرس يقتضي توزيعاً "عادلاً" ومتوازناً في الدولة ومناصبها وإداراتها ووظائفها بين أبناء الطوائف والمذاهب، وهو ما يسمى "المحاصصة".

ما حدث، منذ العام 1989، أن تضافرت خلاصات الحرب مع دينامية "المحاصصة"، على نحو دفع كل طائفة أن تزداد تكتلاً على نفسها ويرتفع فيها منسوب العصبية. خلاصات الحرب أن كل طائفة انتهى بها الأمر منضوية تحت زعامة قائدها الميليشياوي. وهذا بدوره صار ممثلها في الدولة، وهو الذي يصنع نواب الطائفة ووزراءها، ويعين المديرين العامين، كما الجباة وصولاً إلى الحاجب أو الشرطي..إلخ. هكذا، اشتغلت دينامية "المحاصصة" التي ربطت مصلحة كل مواطن في كل شؤونه اليومية الخاصة والعامة بهويته الطائفية (التي تحمي حقوقه)، وتلقائياً بالولاء لزعيم الطائفة (وحزبه). 

على هذا، استحوذ "الزعماء" على سلطة الدولة نفسها، وأقنعوا الرعاية بالانضواء والتبعية لهم في سياق التنافس على المنافع ومصادر الثروة، تحت شعار الدفاع عن حقوق الطائفة. وهذا الشعار هو الباب الذي أدى إلى تحول كل زعيم طائفة إلى مثال أسكوباري، يجمع أعمال الاقتصاد والمال والمقدرات والملكيات العقارية ويضع اليد على منابع مداخيل الدولة وجباياتها ومؤسساتها المنتجة، وهو الذي يسهّل أو يعرقل مشاريع القطاع الخاص والمقاولات.. وكل هذا مرتبط أيضاً بسلطة سياسية، تشريعية وتنفيذية.

النظام السياسي اللبناني برمته، تحول إلى منظومة مافياوية كاملة الأوصاف

بمعنى آخر، لكل طائفة حزبها، الأشبه بـ"كارتيل" بالغ النهم للسلب، يضمن ولاء رعيته بسياسة التخويف من كارتيلات الطوائف الأخرى، وبنظام "الزبائنية" الذي يجبر كل مواطن تأميناً لمعيشته أو لمصلحته أو لوظيفته أن يمنح تصويته وولاءه السياسي لزعيمه، الذي يتفضل عليه بفتات المنفعة والمحاصصة. أي أن النظام السياسي اللبناني برمته، تحول إلى منظومة مافياوية كاملة الأوصاف... ولذا، فإن السمة الأولى للدولة اللبنانية هي الفساد. وببساطة ووضوح الأرقام، يتبين لنا تركّز الثروات المتراكمة في يد نخبة السلطة، فالدّين العام للدولة حوالى 84 مليار دولار، و90 في المئة من هذا الدّين داخلي أي للمصارف اللبنانية، التي هي بدورها مملوكة لحفنة صغيرة من العائلات اللبنانية، إضافة إلى أن 80 في المئة من الودائع في هذه المصارف يحوزها أقل من 10 في المئة من المودعين. يمكن ترجمة هذه الأرقام بمعادلة بسيطة: لقد نهبت هذه "النخبة" مالية الدولة فوق أنها صارت دائنة لها، واستحوذت على المقدرات الاقتصادية في القطاعين العام والخاص. ولا فكاك لـ"الشعب" اللبناني من الارتباط العضوي، جماعات وطوائف أو أفراد، بهذا النظام الطوائفي – المافياوي.

دينامية السياسة الطوائفية، معطوفة على نظام "المحاصصة"، باتت آلية وحيدة لإنتاج السلطة ولعلاقة المواطن بالدولة. ولا شيء ينتج عن ذلك سوى الفساد المطلق، الذي لا مفر له. أما "عدالة" المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، و"عدالة" التوزيع والتوازن بين مختلف الملل والمذاهب، فسرعان ما أسست اللاعدالة الاقتصادية والاجتماعية. إذ توزع اللبنانيون إلى فئتين: أهل الحظوة الذين يحوزون كل الثروات (عشرة بالمئة من مالكي الودائع المصرفية وملّاك العقارات وأصحاب المنشآت ..) وأهل العوز وضيق الحال وهم الآن حوالى 80 في المئة، مع عشرة في المئة المتبقين، من ذوي الاستقلالية المادية والكفاية.

الأزمة الاقتصادية القاسية في لبنان، مردها هو هذا النهب الذي تتشارك فيه كارتيلات الطوائف، التي نصبت كل واحدة منها بابلو أسكوبار الخاص بها، "البطل" الشعبي الذي يعطف على فقراء ملّته ويدافع عنهم، ويوزع عليهم الوظائف والجمعيات الخيرية.. والسلاح، والذي من أجله يندفع الشبان إلى الموت افتداء له.

وإذا كانت سوريا، وأغلب الدول العربية، مبتلاة بمافيا واحدة شديدة البطش والتوحش وبالغة الفساد وموغلة في السلب والنهم ومركّزة في أسرة أو عشيرة بالكاد، فقد يسهل الثورة عليها. أما بلوى لبنان فهي تعددية المافيات على نحو "ديموقراطي"، يصعب معها الاحتجاج، ناهيكم عن الثورة التي لن تجد نصيراً لها، بين جماعات تظن كل واحدة منها أن ثروة زعيمها مفخرة لها، ونصراً مبيناً على الزعماء الآخرين والجماعات الأخرى.