لماذا لا تعلن النُّظُم السياسية الفاشلة فشلَها؟

2022.02.12 | 05:23 دمشق

1037567723_0_2_1984_1118_1920x0_80_0_0_691f12bd17a963f14cb3c940f7a09cff.jpg
+A
حجم الخط
-A

للشاعر نزار قبّاني قصيدة شهيرة عنوانُها: "متى يعلنون وفاة العرب؟" يرِدُ فيها قولُه: "أحاولُ رسْمَ بلادٍ/ تُسمَّى مجازًا بلادَ العرب"، هذه المجازية، استخدمها الروائيُّ المصري علاء الأسواني، في روايته" جمهوريَّة كأنّ".

في عنوان قصيدة نزار إشارة إلى الوصول إلى استعداديةِ الإعلانِ عن حالةٍ يصعبُ الاعترافُ بها، فضلًا عن إعلانها، وهي الموت، وفي ذلك إشكالية، ولذلك أسند الإعلان إلى الضمير: "يعلنون" فنحن لا نعرف، على وجه التحديد، مرجعَ هذا الضمير؛ فمَن الذي يُنتظَر إعلانُه؟ لا بدَّ أن يكون جهةً غير العرب. ولكن الإشكالية تتأكَّد حين يُنتظَر من الطرف الواقع فيما يشبه الموت أنْ يعلن عن عجزه وفشله.

ولذلك يأتي خلاصه في التلبُّس بما يشبه الحياة، وما يشبه الفعل، والإنجازات، كما جاء في عنوان رواية الأسواني: "جمهورية كأنّ"، فكلُّ شيءٍ في هذه الجمهورية مُجرَّد شبيهٍ بما ينبغي أنْ يكون. كأنَّه هو.

وفي تمثُّلٍ آخر تشبه نظُم عربية لا تزال، برغم عجزها، جاثمةً على صدور الناس، حالةَ النَّبي سليمان الذي ما دلَّ الجنَّ على موته إلا الحشرة التي أخذت تأكلُ عصاه، فلما خرَّ، ميِّتًا، تبينت الجنُّ أنْ لو كانوا يعلمون، لَمَا لبثوا في عملهم القاسي، وهم يحسبونه حيًّا؛ ينظرُ إليهم، ويراقب التزامَهم بما كلَّفهم به. مع فارقٍ جوهريٍّ في طبيعة الأثر الذي يتركه بقاءُ هذه النُّظُم، فهو ليس بِنائيًّا، وإنما هدْمٌ وتآكُل. وفارق ثانٍ، وهو أنَّ هذه النُّظُم، برغم مواتها، لا تزال قادرة على التعذيب والقمع!

العوامل الخارجية فتعود إلى دعم دول كبرى فاعلة لا تزال لها اليد الطُّولى في إضفاء الشرعية الواقعية على كلِّ مَن يتحالف معها، ويستجيب لمشروعاتها، ومصالحها

ولمّا كان بالإمكان بقاءُ تلك النُّظُم العاطلة عن العمل، والحياة، برغم تجويفها حياةَ الناس، ومضامين الدولة، بوصفها كيانًا تنفيذيًّا لأفكار الناس، وأداةً لتلبية طموحاتهم، في الأمن والعدالة، ووسيلةً للحفاظ على الأوطان، وسيادتِها؛ فلا بدَّ أنَّ استمرارها يستند إلى عوامل اصطناعية، وهي داخلية، وخارجية، أمَّا الداخلية فيعود أغلبُها إلى تماسُك الطبقة المستغلَّة الفاسدة، مقابل لا تماسُك سائر الناس، وتردُّدهم بين الامتثال، وهو المتوطِّن في عامة الناس، وعليه مُعَوَّلُ السلطة الحاكمة، أو المجازفة بالثورة، وهو فعل مبادِر، يعني شقَّ الصمت؛ ما يفضي، عادةً، إلى إضعاف  قدرتهم على بلورة التماسُك الضروري لفعلٍ سياسيٍّ منتِج، ومضادّ.

أما العوامل الخارجية فتعود إلى دعم دول كبرى فاعلة لا تزال لها اليد الطُّولى في إضفاء الشرعية الواقعية على كلِّ مَن يتحالف معها، ويستجيب لمشروعاتها، ومصالحها. كما يظهر مثلًا في تعاطي الإدارة الأميركية (الديمقراطية) مع نظام الرئيس المصري، عبد الفتّاح السيسي، فهي وإنْ حجبتْ عنه نسبةً من المساعدات المالية، إلا أنها عادت، وأكَّدت، بالفعل، والقول، أنَّ ذلك لا يعني القطيعة معه، أو حتى الجفاء.

ففي تصريحات للصحفيين، أكد الجنرال كينيث ماكنزي، أكبر قائد عسكري أميركي في منطقة الشرق الأوسط؛ قائد القيادة المركزية الأميركية، وجودَ مخاوف تتعلق بحقوق الإنسان، في مصر، لكنه شدَّد أيضًا على أنَّ خفْضَ المعونة العسكرية الذي تمَّ إعلانُه في 28 يناير/ كانون الثاني لا يمثِّل سوى جزءٍ يسير من المساعدات التي تخصِّصها الولايات المتحدة لمصر سنويًّا، والبالغة 1.3 مليار دولار.

فلم يمنع قرارُ إدارة الرئيس جو بايدن بحجب 130 مليون دولار من المعونة العسكرية لمصر؛ بسبب "مخاوف تتعلق بحقوق الإنسان"، مِن زيارة هذا المسؤول العسكري الرفيع، لمصر، وتأكيده استمرار الصلة الوثيقة مع نظام السيسي الذي أحرج الأميركيين بانتهاكه حقوق الإنسان.

ولا يمكن التقليل من هذا العامل الخارجي، في إسناد تلك النُّظُم، وخصوصًا حين تتوفر على كتلة أمنية مستفيدة، ومنعزلة عن الشعب، وحين لا تقوى القوى المعارِضة على توحيد نفسها، على قواسم مشتركة.

مع أن التقنيات المستعملة لدى تلك النُّظُم الفاشلة لا تكاد تفارق وسائل غير ذات صلة، من قبيل تدوير الشعارات، مرّة تُجاه العدوّ الخارجي المتربِّص، منذ عقود، وإلى أجلٍ غيرِ مُسمَّى، ومرَّة بادِّعاء إنجازاتٍ وهمية لا يلمس المواطنُ العاديُّ أثرًا لها على حياته، إلى ما يُعرَف بتلبيس الطواقي، وتغيير الوجوه؛ وذلك لإطالة أمد الترنُّح، ومضاعفة الكُلَف على الأجيال المقبلة.

نرى ذلك، في فلسطين، مثلًا، إذ، تدور السلطة الفلسطينية في حلْقة مفرَغة، منذ سنوات، فقد أوقفت التفاوض مع دولة الاحتلال، لكنها لا تمانع من إجراء لقاءات على مستوى رفيع، بين الرئيس محمود عباس، ووزير دفاع إسرائيل، بيني غانتس، وكذا لقاءات لا تكاد تنقطع بين الوزير حسين الشيخ، ورئيس الهيئة العامة للشؤون المدنية، ومسؤولين إسرائيليين، وقبل ذلك، أعلن المجلس المركزي لمنظمة التحرير وقْفَ الاتصالات والتنسيق الأمني مع الاحتلال، وتعليق الاعتراف بإسرائيل، ثم يعود، ويعلن مرّة أخرى، قبل أيام عن القرارات نفسها، وسط غضب شعبي من اعتداءات جيش الاحتلال، المستفزّة، واغتياله للمقاومين، في عُقْر المدن الفلسطينية، كنابلس، وقبلها جنين، وغيرهما. وإزاء كلِّ تلك الإحراجات الاحتلالية المتفاقمة لا تغييرَ فعليًّا في الممارسة الفلسطينية الرسمية، ولا حتى في خطابها، إذ المطالبة بالحماية الدولية، ومحاكمة قادة الاحتلال، دون أن يكون ذلك رادعًا لهم.

والسلطة الفلسطينية، بعد كلِّ تلك السنوات من التفاوض، منذ اتفاق أوسلو، 1993، وقبلها مؤتمر مدريد للسلام، 1991، لا تجرؤ، أو تقدِر، على الاعتراف بفشل نهجها، بل تستمرّ في تزجية الوقت الذي يسمح للاحتلال بمضاعفة الاستيطان والتهويد، وإضعاف بيئة المقاومة.

وليس بعيدًا عن الحالة الفلسطينية ما يتركه استمرارُ نظُمٍ عربية عاجزة وفاسدة مِن تآكُل مقدَّراتِ الأوطان، ومقوِّمات الشعوب، كما العراقُ الغنيُّ بالنفط، حيث تردّي الخِدْمات الحيوية، وكما مصر المُهدَّدة بالحرمان من حصَّتها من النيل؛ لتلجأ إلى وسائل مكلفة؛ من تحلية مياه البحر، وتزيد عبء الديون على الشعب.

وأما تخريب تلك النُّظُم لمقوِّمات الشعوب، فقد أدّى استئثارُ فئةٍ محدودة بخيرات البلد، واحتكارُها للسلطة، دون أن تسمح لمَن هم خارجها بالمشاركة في الحكم، إلى تحمُّلها كامل المسؤولية، فهي إلى جانب وَأْدِها للحياة السياسية، أضعفت الروابط الاجتماعية، فأوهمت البعض، بأنَّ تأييدهم لها سيجعلهم بمعزل عن الأضرار والتداعيات، مع أنَّ تلك التداعيات التي أصابت مَن قبلهم، إِمَّا أنها وصلتهم، كمَن اختاروا موالاة الأسد، ثم وصلهم الفقرُ والقمع.

بقاء نظُمٍ سياسية تتصف بالعطالة والإفلاس، هو بقاء مصطَنع، مشروط بشروط لا تملكها، وهي لا تنتهي من أزمة، حتى تندلع في وجهها أخرى

وإِمَّا أن انحيازهم للنظام الفاسد أفقَدَهم معاني العيش المشترَك، وحرمهم طعْمَ الانصهار بالكلِّ الوطني الشعبي، حين أسهموا، أو سكتوا عن تدمير البيئة الاجتماعية الطبيعية، بما تنطوي عليها من غِنى اجتماعي، ورحابة إنسانية؛ بمعاني، العيش اليومي، والجوار، والهموم، والآمال المشترَكة؛ فالظلم لا يقتصر ألمُه على المظلوم، وإنما يطول الظالم، أيضًا. 

وفي المحصِّلة، فإن بقاء نظُمٍ سياسية تتصف بالعطالة والإفلاس، هو بقاء مصطَنع، مشروط بشروط لا تملكها، وهي لا تنتهي من أزمة، حتى تندلع في وجهها أخرى، كما نشهد من احتجاجات السويداء، في سوريا، مثلًا، فهي نظُمٌ ساقطة، وفي حُكْم المنتهية، سواء اعترف قادتُها بذلك، أم أنكروا. " ذلك أنَّ الحقائق معانِدة. إنها لا تختفي حين يرفض المؤرِّخون وعلماءُ الاجتماع التعلُّمَ منها"، كما تقول حنّة أرندت، أو حين يرفض منكروها من المستبدِّين التعلُّمَ منها.