لماذا لا تستطيع أميركا الانسحاب نهائياً من الشرق الأوسط

2021.11.22 | 05:17 دمشق

20200909125304afpp-afp_8pl6nz.h-730x438.jpg
+A
حجم الخط
-A

شكل التدخل الأميركي والروسي في بلدان الربيع العربي انعطافة جيوسياسية واقتصادية ومصادر خطر على بعض الأنظمة، ومكامن قوة وحماية لبعضها الآخر، ما أفرز خارطة جديدة لتقييم التهديدات والأخطار في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وكان من الطبيعي أن يزداد التنافس على المنطقة بين الفاعلين الرئيسيين أميركا وروسيا، وخلق احتياجات مختلفة للطرفين وللدول العربية، خاصة مع اختلاف طبيعة المطامع والمصالح والتوجهات التوسعية بين الطرفين في المنطقة، فروسيا تقدم سياساتها على أنها براغماتية في الشرق الأوسط، ساعية للتعاون "الانتقائي" مع الفاعلين المحليين والإقليميين، وهو ما ظهر عبر التقارب الروسي مع مصر في عهد السيسي والسعودية في أسواق النفط، ورغبة من موسكو في إقامة توازن علاقاتي مع طهران وتل أبيب، وليس من المستبعد أن تطرح موسكو نفسها، وفقاً لهذه التوازنات الإقليمية لسياساتها في الشرق الأوسط، كوسيط بين إيران ودول الخليج، يليه بينهما وبين إسرائيل أيضاً. وتسعى روسيا لزيادة تمددها وتعزيز اقتصادها المحلي من تجارة واستثمار.

هذا يتطلب منها تقديم نفسها كبديل لأميركا في المنطقة، خاصة وأن كليهما له نهج متناقض مع الأخر، حيث تنهج موسكو المرونة والتعاون على المدى القصير، مع أفضلية سيطرتها على القرار السياسي، وتشكيل تحالفات مع عدد من دول الشرق الأوسط على حساب أميركا، خاصة بعد الانسحاب من أفغانستان، واستغلال الإشارات التي أرسلتها واشنطن إلى الخليج، في زمن الرئيس السابق "ترامب" حول "انقضاء زمن منح الحلفاء في الشرق الأوسط شيكاً مفتوحاً"، وفي زمن إدارة "بايدين" كحال ملف الصحفي السعودي، جمال خاشقجي، فتسعى روسيا لتقديم نفسها إلى دول الشرق الأوسط كبديل للولايات المتحدة على وجه التحديد، دون إغفال أن الالتزام الإيديولوجي لإيران بالتنافس مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وخارجه، يعتبر نعمة جيوسياسية كبرى لموسكو، ما يُلزم إيران للجوء إلى روسيا، لما تحتاجه الأولى من متطلبات كبيرة وكثيرة في الجانب العسكري والاقتصادي والدبلوماسي للتمدد والتوسع في العواصم العربية، بمعنى ثمة تكتيك عسكري- أمني يجمع بين موسكو وطهران وفق قواعد الضرورة. بينما ترغب واشنطن ببناء علاقات طويلة الأمد مع الشركاء الإقليميين، وفق قواعد ضمان الأمن الأميركي وتعزيز قيم الديمقراطية وفقاً لمصالحها الأمنية الإستراتيجية -لكنها لم تقدم خطة وضمان وجود سياسي بفاعلية مريحة- وموقف طهران من واشنطن لا يعبر عن موقف غالبية دول المنطقة التي تتمتع وتسعى نحو أوثق العلاقات مع أميركا، وتهتم أميركا بتصريف منتوجاتها العسكرية في مناطق نفوذها والضغط على حلفائها لمنع شراء السلاح الروسي، أمام كل ذلك تدرك واشنطن أن الوجود الروسي أمر واقع لا يمكن تحدّيه أو تغييره بسهولة، لكن الانسحاب التّام من الشرق الأوسط سيفتح الباب على مصراعيه لموسكو وحدها.

صحيح أنه لا بوادر تلوح في الأفق لصراع عسكري أو سياسي بين موسكو والدول العربية، لكن التطلعات الروسية للمزيد من التغلغل في المنطقة ربما يهدد بصراع مستقبلي مرير لروسيا مع حلفاء واشنطن من الدول العربية لثلاثة أسباب، أولها: زادت روسيا من مستويات انخراطها في المنطقة، كحال تدخلها في ليبيا، وسوريا، ولا تخفي رغبتها ببناء قاعدة عسكرية في اليمن، وهي تتأمل تراجع مستويات وجود أميركا في المنطقة، أو التفاهم معها بما يصب في مصلحة روسيا، لتزيد هي من منسوب انخراطها العسكري أكثر، وما يستتبعه من تغول اقتصادي وثقافي، والثانية: لها رغبة في الاستقرار والاستثمار الدائمين في المياه العالمية، وهو هدفٌ وجدت روسيا في الدول العربية حاملاً له بسرعة قياسية، حيث وقعّ "بويتن" قانوناً لتوسيع قاعدتي طرطوس وحميميم؛ لترسيخ الوجود الدائم لروسيا في سوريا، وتحاول كثيراً الاتفاق مع مصر وليبيا، وعلى نطاق أوسع في شمال إفريقيا، إضافة لتقاطع المصالح بين روسيا وإيران حول منع تمدد الغرب وعدم تحقيق القوة على حساب البلدين، والثالثة: المشكلة التي تواجه روسيا هي الصين، التي على الرغم من انسجام الأهداف بينهما حول تقليص النفوذ الأميركي في المنطقة، لكن مستقبل علاقاتهما الثنائية مهدد، فغياب اتفاقية واضحة حول مستويات وحدود تدخل كل منهما، سيعني احتكاكا أو صدام مصالح بين الطرفين، وليس من المستبعد أن تجد موسكو وبكين نفسيهما في صراع على النفوذ لأن لهما نفس المصالح في المنطقة. وسبق أن نشر (معهد الشرق الأوسط) في شباط 2021، حول وضوح قواعد اللعبة بين واشنطن وموسكو في الشرق الأوسط، لكن التفوق الصيني اقتصادياً وعلاقاتها التجارية مع الدول العربية، أكثر من روسيا، يعني قواعد لعبة جديدة بينهما في الشرق الأوسط.

رُبما لدى روسيا مخاوف من انسحاب أميركي من الشرق، مخافة أن تكون الصين أكثر نفوذاً تجارياً-اقتصادياً منها، إذا ما تبنت الولايات المتحدة موقفاً أقل تدخلا في الشرق الأوسط، والتوجه صوب سياسة "المحور نحو آسيا" وهي سياسية جديدة تنتهجها الإدارة في واشنطن، ما يعني زيادة الفراغ في الشرق الأوسط، خاصة مع أهمية مبادرة الصين "الحزام والطريق" التي تقوم على أنقاض طريق الحرير وربط الصين بالعالم، كأكبر بنية تحتية في تاريخ البشرية وحاجتها لتمويل ضخم، حينها قد تجد القوتان روسيا والصين نفسيهما في صراع من أجل الهيمنة على الشرق الأوسط، وهو يعني ضرراً بعلاقتهما من جهة، وعلاقتهما مع دول المنطقة من جهة ثانية، إضافة إلى أن الانسحاب الأميركي من شمال شرقي سوريا سيضع روسيا في مواجهة مع فلول داعش، والمشكلات السياسية والتركيبة الاجتماعية البالغة التعقيد، فسعت ولا تزال صوب تقريب وترتيب العلاقات بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية، على أمل أن لا تجد نفسها في مواجهة كتّلة من المشكلات المجتمعية والسياسية والاقتصادية هناك. وصحيح أن لا علاقة مباشرة لواشنطن بمستويات التهديد تلك، لكن تقليص واشنطن لمستويات الانخراط العسكري في المنطقة سيكون العامل الأبرز لتعزيز شهية روسيا مع مخاوفها من الصين، تركيا، إيران، إسرائيل، للتوسع في المنطقة العربية هبوطاً أو صعوداً في حالة الانسحاب الأميركي، ومحاولة ملء الفراغ حتى لو تطلب الأمر صداماً عسكرياً لتلك الدول مع دولة أخرى في المنطقة.

فالانسحاب الأميركي سيعزز التوجه التركي لممارسة المزيد من الضغوط على الدول العربية وعلى كُرد سوريا والعراق عبر ورقة المياه أو التدخل العسكري في شمال شرق سوريا على سبيل المثال، والوصول عسكرياً إلى اليمن، وستملك تركيا كل الجرأة للتقدم بتلك المسارات؛ لأنها لن تخشى من أي حرب ربما تندلع في المنطقة، لإدراكها أن واشنطن التي تكبح جماحها التوسعي، لن تكون موجودة بزخم كبير في المنطقة. حتّى إثيوبيا نفسها ستسعى لاستغلال الانسحاب الأميركي، حيث سيمنحها عامل تفوق لاستخدام ورقة المياه للضغط على مصر والسودان، في ظل انشغال دول الخليج العربي بمصالحها في القرن الأفريقي، وصراعها مع إيران، وستكون إسرائيل أكثر الدول سعادة بالانسحاب الأميركي للسيطرة على أكبر قدر ممكن من الأراضي الفلسطينية وتهجير المزيد منهم، لدعم عمقها الاستراتيجي وتحولها إلى قوة أكبر مما هي عليه الآن.

وفقاً لذلك فإن السعودية والإمارات وكردستان العراق والسنّة في العراق والفلسطينيين والجهات الفاعلة في شمال شرقي سوريا، والدول العربية والجهات الفاعلة التي لا ترغب بقطع علاقاتها ومصالحها مع أميركا، يحملون قاسماً مشتركاً حول القلق من تخلي الولايات المتحدة عن المنطقة، وأميركا نفسها تدرك أن الانسحاب التام، بمعنى إنهاء التدخل وإفساح المجال الجغرافي والسياسي لتلك الدول /الراغبة بالتمدد والتوسع/، سيعني أخطاراً عميقة على أمنها القومي الإستراتيجي وتفوقاً لروسيا والصين وتركيا وإيران عليها في الشرق الأوسط. وفي الوقت ذاته، ربما نجد انسحاباً أميركياً من بعض الدول والمناطق، لكن ليس من المرجح سحب قواتها من جيبوتي والسعودية والإمارات وقطر، وأسطولها في البحرين وقواعدها في العراق وكردستان، أيّ أن بقاء جندي أميركي واحد مع علم الولايات المتحدة، سيعني وجوداً كبيراً لها، لكن المنطقة تحتاج إلى مشروع سياسي وتنموي جديد وواضح.