لماذا غيّرت واشنطن سياستها في شرق الفرات؟

2019.07.14 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

خرقاً لكل التعهدات والاتفاقيات التي عقدتها مع تركيا تواصل الإدارة الأميركية شحن السلاح والعتاد إلى حلفائها في تنظيم "قوات سوريا الديمقراطية" المرتبطة بمجموعات "حزب العمال الكردستاني" الإرهابي. بعثات أميركية دبلوماسية واستخباراتية تواصل تحركاتها اليومية ولقاءاتها برجال العشائر العربية في محاولة للتقريب بين القوى المحلية الفاعلة، باتجاه التفاهم على المشاركة في اعلان إدارة حكم ذاتي بصيغة معدلة توازن بين المكونات والشرائح الاجتماعية والعرقية في المنطقة تسحب الورقة من يد أنقرة التي تتحدث دائما عن هيمنة وحدات "مسد" على القرار السياسي والأمني هناك.

أعلنت القيادات التركية أكثر من مرة أن صبرها كاد ينفذ وأنها ستقوم عاجلا أم آجلا بعملية عسكرية واسعة في منبج وشرق الفرات لإبعاد مجموعات "قسد" المرتبطة بتنظيم "بي كا كا" عن مناطق الحدود التركية السورية. عرقلت واشنطن العملية التركية باستمرار متعهدة بحسم المسألة على طريقتها. النتيجة كانت مزيداً من السلاح والدعم والتجهيز لتخدم أكثر أهداف المشروع الأميركي في سوريا.

أكثر من مؤشر أمني وسياسي وميداني يقول إن واشنطن تخلت عن فكرة سحب القوات من شرق سوريا وقررت مطالبة العواصم الغربية وحلفائها العرب بمشاركتها في تحمل مسؤولية تنظيم إدارة شؤون شرق الفرات وذلك على عكس ما كان المبعوث الأميركي إلى سوريا جيمس جيفري، يطالب به ويتحدث عنه حول استبدال القوات الأميركية بقوات أوروبية شرق أوسطية في إطار خطة أمنية في مناطق الحدود التركية السورية تأخذ الهواجس التركية بعين الاعتبار.

أكثر من مؤشر أمني وسياسي وميداني يقول إن واشنطن تخلت عن فكرة سحب القوات من شرق سوريا وقررت مطالبة العواصم الغربية وحلفائها العرب بمشاركتها في تحمل مسؤولية تنظيم إدارة شؤون شرق الفرات

القيادات السياسية الأميركية التي أبلغت تركيا بقرار الانسحاب العسكري من شرق الفرات بعد إنجاز خطة الحرب على "داعش" عادت وتراجعت عن موقفها بتشجيع إسرائيل وبعض العواصم العربية لقطع الطريق على النفوذ التركي هناك وعدم التفريط بالورقة الكردية الممكن لعبها على أكثر من مستوى وبأكثر من اتجاه في الملف السوري والمسألة الكردية ببعدها الإقليمي.

قرار ترمب بسحب القوات من شرق سوريا يتعارض مع مصالح أميركا في المنطقة كما قال جناح الصقور في البيت الأبيض وهو يضعف وجودها ويقوي بالمقابل النفوذ التركي والروسي والإيراني. وهو ما دفعهم إلى الضغط على الرئيس بوسائل الترغيب والترهيب وإقناعه بالتراجع عن هذا القرار.

تراجع أميركا عن التزاماتها لتركيا في شرق الفرات مرتبط بالتحولات الجذرية في سياسات وقرارات الطرفين على مستوى العلاقات الثنائية والإقليمية التي تذهب بمنحى تراجعي سلبي يوما بعد آخر.

الإعلام التركي تحدث أكثر من مرة عن دخول إسرائيل وبعض العواصم العربية على خط التوتر التركي الأميركي في شرق الفرات عبر تسهيل الاتصالات الأميركية بمشايخ العشائر العربية والمساهمة في تزويد وحدات "مسد" بالسلاح والعتاد والتوسّط بين النظام في دمشق والوحدات الكردية بهدف فتح أبواب التنسيق ضد أي تحرك عسكري تركي في المنطقة.

دخول أوروبي علني على الخط ظهر إلى العلن في الأيام الأخيرة أيضا مع الإعلان عن دعم الخطة الأميركية في شرق الفرات في إطار تحرك التحالف الدولي للحرب على الإرهاب. فرنسا وهولندا والسويد بين الفاعلين هذه المرة لإقناع "قسد" بتغيير سياستها وأساليبها حيال العشائر وتوجيه النصائح بضرورة الحوار وتقاسم النفوذ.

التحول في الموقف الأميركي له أسبابه الكثيرة طبعا لكن توقيته مع القمة الثلاثية الأميركية الروسية الإسرائيلية التي عقدت مؤخرا في تل أبيب وبدء أنقرة تسلم شحنات صواريخ إس – 400 والتصعيد المتواصل في منطقة حوض شرق المتوسط بين الدول المتشاطئة بسبب عمليات التنقيب عن الغاز وفشل المحادثات التركية الأميركية في تحقيق أي خرق أو إنجاز حقيقي في التعامل مع الأزمة السورية.

التحول في الموقف الأميركي له أسبابه الكثيرة طبعا لكن توقيته مع القمة الثلاثية الأميركية الروسية الإسرائيلية التي عقدت مؤخرا في تل أبيب وبَدْء أنقرة تسلم شحنات صواريخ إس – 400 والتصعيد المتواصل في منطقة حوض شرق المتوسط بين الدول المتشاطئة

الواضح أيضا ان أميركا حسمت موقفها ليس لناحية لعب ورقة "قوات سوريا الديمقراطية" واستمرار تحالفها معها، بل منحها الدور الأكبر الجديد في شرق الفرات لموازنة السياسة التركية هناك وعرقلة خطة المنطقة الآمنة على الطريقة التي تريدها أنقرة بالتنسيق مع قوى المعارضة السورية. لكن الأسوأ في كل ذلك هو بروز قناعة جديدة حول أن الخطة الأميركية تحمل في طياتها مشروع تفتيت وتقسيم عرقي جغرافي جديد في سوريا وأن بعض القوى الأوروبية والإقليمية تساعدها في الوصول إلى هذه الغاية بهدف مواجهة السياسات التركية والإيرانية والروسية ومهما كان الثمن.

الدبلوماسي الأميركي جيفري كان واضحا منذ البداية عندما قال بأن الحضور العسكري الأميركي في شرق الفرات سوف يستمر، وأن من المحتمل أن تطبق واشنطن هناك ما طبقته من قبل في شمال العراق. الرسالة هي حول مشروع كونفدرالي سوري دائما تتعلق مسألة الإعلان عنها بالظروف والمعطيات الإقليمية والدولية.

موقف النظام الذي يتعرض لعمليات إغراء "عربية" متزايدة في الأشهر الأخيرة حول الحصول على الاعتراف السياسي والدعم المالي الذي يريده وبقائه في الحكم طيلة المرحلة الانتقالية في سوريا التي لا يعرف أحدا متى ستنتهي، وقبوله لحقيقة "تراجع" النفوذ والدورين التركي والإيراني في سوريا هو الذي تنتظره هذه القوى لإعلان ساعة الصفر في مخططها.

الناطق باسم البنتاغون سين روبيرتسون كان يقول "إن القيام بعمليات عسكرية تركية في مناطق يوجد فيها أميركيون أمر مقلق". وأنقرة كانت تعترض على محاولات إبقاء ثلث الأراضي السورية الاستراتيجية تحت سيطرة "قسد" وتلاعب أميركا بموضوع منبج وطرح خطط أبراج المراقبة للفصل بين القوات في شرق الفرات ورفض مواصلة البنتاغون لسياسة تسليح الوحدات الكردية دون مبرر بعد القضاء على داعش. الطرفان سيقولان ويفعلان أكثر من ذلك في المرحلة المقبلة.

التوتر التركي الأميركي سببه إذاً هو تمسك أنقرة برفض الخطة الأميركية واستعدادها للدخول في أكثر من مواجهة سياسية وميدانية لعرقلة مشروع إعادة رسم خرائط الجوار التركي على حساب منظومة التوازنات الإقليمية القائمة.

قال الرئيس التركي إن البعض يعتقد أنه بإمكانه إشغالنا بالوعود والقشور، أسلوب المماطلة لن ينفع معنا، وصلنا إلى نهاية الصبر

بداية وصول شحنات صواريخ إس 400 إلى الأراضي التركية "الأطلسية" سيغضب واشنطن حتما والرد لن يكون بتجميد مشروع طائرات اف 35 والتلويح بعقوبات اقتصادية لوجستية. بعض اللوبيات الإسرائيلية والعربية الناشطة في الدوائر الأميركية تريد أكثر من ذلك فهي لن تهدر فرصة تصفية الحسابات مع أنقرة هذه المرة بعدما نجحت في دفع العلاقات الأميركية الإيرانية نحو الهاوية.

النقاش التركي الأميركي في شرق الفرات لا يمكن فصله عن أكثر من ملف توتر ثنائي ودخول أكثر من لاعب محلي وإقليمي على الخط. قال الرئيس التركي إن البعض يعتقد أنه بإمكانه إشغالنا بالوعود والقشور، أسلوب المماطلة لن ينفع معنا، وصلنا إلى نهاية الصبر. وأعلن وزير الدفاع التركي خلوصي أكار أن اللقاءات التركية الأميركية حيال مسار الأمور في شرق الفرات مجرد إضاعة للوقت. واشنطن تردد أن وحدات حماية الشعب الكردية، ستظل تحظى بالدعم الأميركي العسكري والسياسي والمادي. يبدو أن مواجهة أميركية تركية على جبهة شرق الفرات لا مفر منها بعد الآن. موسكو قدمت ما بحوزتها من أجل ذلك منظومة الصواريخ.

كلمات مفتاحية