لماذا استطالت النهاية؟

2020.06.01 | 00:01 دمشق

syria2.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا حصر للأسباب التي أدت إلى هذا الاستعصاء السوري، وجعلت القضية السورية تطول وتطول، مولّدةً كل هذا الانسداد والمرار؛ علماً أن غيرها من جولات الربيع العربي وصلت إلى نهايات أقل ألماً وضياعاً ودموية في فترة زمنية قياسية.

لم تكن الخصوصية السورية فقط نتاج عبقرية الخبث لحافظ الأسد، حيث جعلها ودائرته الضيقة مزرعة تحمل كنيته قائمةً على جهل وتجهيل وفساد وإفساد ممنهجة، ولا نتيجة يد دموية ديدنها "أحكمها أو أدمّرها" فقط؛ ولا هي نتاج الضخ المالي داخلاً وخارجاً لتمويل آلة القتل والاستبداد فقط؛ بل هي نتاج تضافر كل ذلك مع يد خارجية راقها أن تكون سوريا هكذا؛ لأنها لو كانت دولة حرية وديموقراطية وإدارة خيّرة رشيدة، لتغيّر وجه المنطقة، ولما رأينا إسرائيل تبقى وتتمدد.

وبالعودة إلى الاستعصاء القائم وامتداد الوجع، وانسداد آفاق القضية السورية، لا بد من التركيز على الأسباب الأبرز التي تفرّدت بسوريا. لقد كان توصيف واعتبار ما يحدث في سوريا بالحرب الأهلية “civil war” هو الأخطر. هذا المصطلح لم يُطلق على ما يحدث في أي من دول الربيع العربي. لقد كان موازييك سوريا قومياً وإثنياً ودينياً حاملاً جميلاً للتعايش، لكن عبث نظام الأسد بهذه الرافعة الجميلة- مستغلاً بعض الأصوات الغبية والأخرى الخبيثة ليضرم النار بهذا الحامل- ساهم بتصوير الصراع على أنه طائفي في وقت لم يكن هناك إلا طائفة عصابته وطائفة الشعب. ولو كانت الحرب أهلية - كما تم ترويجه- لانتهت بانتصار أحد الفريقين والتوصل إلى حل سياسي؛ ولكن لم يكن الحسم ممكناً بأي اتجاه، ولم يُسمح به أساساً. وهكذا امتدت المأساة بكل آلامها.

العامل الحاسم الثاني كان مقولة "محاربة الاٍرهاب"، العبارة السحرية ذات الوقع العالمي لتدمير الخصم وتنفيذ مخططات الخبث. لم يلتفت كثيرون إلى مئات الإرهابيين الذين أطلق النظام سراحهم من سجن صيدنايا، وبرمجهم ليكونوا قادة داعش والنصرة؛ ولا لمن أطلق المالكي سراحهم من سجون العراق؛ ولا لعناصر القاعدة الذين أرسلتهم إيران- معقل القاعدة- إلى سوريا. لم ينتبه أحد إلى أن كل جلسة "مفاوضات" في جنيف كانت تُمهَر بعمل إرهابي ينفذه النظام كي يثبّت بأنه يحارب الاٍرهاب. ولكن رغم إرهاب الدولة هذا، فإن ما تمت إشاعته دولياً هو أن النظام يحارب الاٍرهاب. وهكذا أضحى السوريون والعالم أمام المعادلة التالية: [صحيح أن النظام دكتاتوري، إلا أنه يقاوم الاٍرهاب] لتتحقق المعادلة الصفرية، ويستمر الوجع السوري.

زاد في امتداد المأساة أن الصراع في سوريا وعليها لم يعد فقط محلياً بل أصبح صراعاً دولياً بينياً ومتعدد الأطراف. عندما هبّت إيران منذ الساعات الأولى لانتفاضة سوريا للانخراط في الصراع معتبرة إياه الفرصة الذهبية لإنجاز مشروعها في المنطقة العربية كلاعب حاسم الدور في مصير المنطقة؛ وعندما قفزت روسيا بوتين بكل أحمال صراعها ومشكلاتها داخلياً ومع الغرب إلى الساحة السورية كمقرر أول وصاحب كلمة فصل؛ وعندما قُيِّض لإسرائيل فرصة مشاهدة تداعي دولة تاريخية اسمها سوريا، وتحطمها بمباركة نظامها؛ وعندما استشعرت تركيا الخطر الحدودي وتهيؤ الفرصة لسحق ما يهدد أمنها القومي، ويجعلها لاعباً أساسياً في تحديد مصير محيطها؛ وعندما وجدت أميركا أن أعداءها يستنزفون بعضهم بعضاً على الساحة السورية، وهي تتفرج وتشد خيوط اللعبة من الخلف؛ فكيف لصراع دموي تدميري بهذا الشكل أن ينتهي بسرعة، إلا بحصول كل تلك الأطراف على حصصها وتنفيذ مخططاتها المتضاربة و المتصادمة؟!

ثالثة الأثافي كانت حجة "اللا بديل"، وهي ذريعة خبيثة بامتياز؛ فأين تجد روسيا أو إيران أو إسرائيل نظاماً كهذا مستعداً أن يبيع كل شيء للبقاء في السلطة؟! فرغم الموت السريري لتلك المنظومة، فإن رعاتها لا ييأسون من إعادة تكرارها حرصاً على حصصهم. فتراهم ما توقفوا يوماً عن نسف مصداقية المعارضة المعثرة والمتعثرة سلفاً، حيث عملوا على الدوام ضمن حملة منظمة توصل السوريين والعالم إلى الاقتناع بوهم مفاده: أن "النظام والمعارضة أسوأ من بعضهما بعضاً". والأخطر في قضية "اللا بديل" إهانة شعب سوريا؛ وكأن أرحام السوريات قد نضبت، وأن لا حق للسوريين في أن يجدوا من يضع بلدهم على سكة الحياة، لو رفع هؤلاء بلاءهم عنهم.

أحد أهم الأسباب المساهمة بالانسداد السوري، والذي صُمِّمَ ليكون أداةً لكسب الوقت وإطالة عمر النظام هو ذلك الأمر المنطقي والطبيعي والمغري ألا هو "الحل السياسي". حيث تبيّن ألا أحد يريد حلاً سياسياً حقيقيًا في سوريا؛ لأن الحل الحقيقي ينهي النظام ولا أحد يريد نهايته لخدماته "الجليلة". كل الأطراف المنخرطة في الصراع- حتى النظام ومن يدعمه- تحدثت عن حل سياسي، ولكنها مارست الحرب. بتوافق غير معلن للأطراف الخارجية، لم يكن الحسم العسكري، أو انتصار طرف داخلي على آخر ممكناً أو مسموحاً به؛ واستمرت فكرة التلويح بالحل السياسي، الوهم الذي لا يأتي.

لقد كانت قضية الشعب السوري محيّدة تماماً؛ فلا أحد يلتفت إلى أن جوهر الصراع أخلاقي بالدرجة الأولى، وأن الغائب الأساس هو جوهر الصراع بين شعب ينشد الحرية ونظام استبدادي. فليس هناك حرب أهلية، ولا حتى صراع سياسي؛ ولا حرب على الإرهاب، بل صراع ذو طبيعة قانونية أخلاقية بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الأخلاق والرذيلة، بين الحرية والعبودية، بين الجشع والعفة، بين الموزاييك البناء لا الطائفية والاصطفافات المدمرة. لا يطلب السوري عالماً مثالياً بل أبسط الحقوق في عيش حر كريم آمن تحت سيادة قانون تسهر على تطبيقه إدارة رشيدة لا مكان فيه للعصابة الحالية.

والآن، ومع انكشاف طبيعة النظام، وحاله المهلهل، وملفاته الإجرامية؛ وتسرب عفنه الداخلي، وتدميره لسوريا الحاضر والمستقبل؛ ومع الاستعصاء الروسي؛ والإجماع على نبذ إيران؛ ووصول آخرين إلى حالة إشباع من الوجع السوري- هل اقتربت سوريا من نهاية النفق؟! جوابي أقرب إلى "نعم"؛ والسبب أن روسيا تحديداً لا تريد أن تحوّل غنيمة أخذتها رهينة إلى عبء يقتلها، وما تغيُّر استراتيجيتها بالمصافقة على الأسد إلا دليلٌ على ذلك. وهنا يبقى جهد السوريين الأحرار أساسياً في القضية.