للخروج من المأزق الأوكراني.. هل يشعل بوتين حروبا أخرى؟

2022.03.29 | 06:37 دمشق

645x344-1644910691246.jpg
+A
حجم الخط
-A

إذا كانت السياسة التي تقود العالم اليوم، وسابقاً، هي في جوهرها انعكاس القوة - على أنواعها – ومحاولة استغلال الآخر بتوظيف هذه القوة مهما يكن هذا التوظيف بشعاً ومدمراً، فإنها بالتأكيد ليست حقلاً للدفاع عن قيم الحرية والعدالة، كما يحاول معظم الساسة القول عند تبرير ما تفعله دولهم، وبما أن الدولة أيضاً التي هي محدد السياسة إلى حد كبير، فإنها تصبح بالتالي معرضة لفصام غير معلن بين مبادئها ومحدداتها وضوابطها المعلنة، وبين ما تمارسه فعلا، وبالتالي فإن أي قراءة لمجريات اللحظة الراهنة بدلالة غير دلالة النفوذ والاقتصاد والهيمنة، ليست أكثر من تجميل لا أهمية له، فلا بوتين ومن معه يريد "اجتثاث النازية" المزعومة، وحماية الشعب الأوكراني من نازية جديدة، ولا أميركا ومن معها تريد الانتصار للديمقراطية وقيم الحرية.

اليوم والعالم كله يعيش على إيقاع الحرب بين أوكرانيا وروسيا، تدخل البشرية في مرحلة ستؤسس لمعادلة عالمية جديدة، لا يُمكن توقّع مدى تفارقها عن المعادلة القائمة، فهذا ما سوف تحدده وقائعها القادمة، ونتائج الحرب الاقتصادية التي انفجرت بقوة، وإذا كانت المعركة العسكرية ما تزال محصورة في الجغرافيا الأوكرانية، فإن الحرب الاقتصادية الآن، تُخاض بشراسة في كل أرجاء العالم.

منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا – وبغض النظر عن فكرة المؤامرة – قررت أميركا أن تخوض هذه الحرب بخطة ثلاثية الأركان: الركن الأول، هو حصر الأعمال العسكرية جغرافياً ومنع تمددها، والركن الثاني، هو إعادة التماسك والقوة لتحالفاتها القائمة وفي مقدمتها "الناتو" والتي بدأت تشهد تشققات كثيرة، وتوسيع هذه التحالفات إن أمكن، والركن الثالث، هو تأجيج الحرب الاقتصادية ضد الحلف الذي تقوده الصين وروسيا، والطامح لكسر معادلات الهيمنة الأميركية على الاقتصاد العالمي.

في معادلة جديدة، يحاول بوتين فيها مواجهة الخيار الأميركي الرامي لحصر العمليات العسكرية في الأرض الأوكرانية، عبر إشعال الحرب في مناطق أخرى

يبدو أن أميركا كما روسيا، انطلقتا من حسابات لم تضع في حسبانها حصول مفاجآت كبيرة قد تغيّر مجرى الخطط المرسومة من قبلهما، فروسيا الذاهبة إلى احتلال بلد بالقوة العارية، اضطرت بعد شهر من حرب كشفت ثغرات فادحة في خططها العسكرية، وفي أداء وحداتها العسكرية، وفي تقديرها لقدرة خصمها على المقاومة، أن تعيد حساباتها عسكرياً، وأميركا التي لم تعر اهتماما كبيرا لتاريخ علاقاتها المتغطرسة والبشعة مع العالم، لم تتوقع أن ترى تصدّعات جديدة في بنية تحالفاتها، تصدّعات قد تقلب معادلة الحرب بوجهيها الاقتصادي والعسكري.

في معادلة جديدة، يحاول بوتين فيها مواجهة الخيار الأميركي الرامي لحصر العمليات العسكرية في الأرض الأوكرانية، عبر إشعال الحرب في مناطق أخرى، وتفجير صراعات تبدو خامدة على السطح، لكنها تتأجج في العمق، سواء في أذربيجان، أو في بحر "الصين" أو في منطقة البلقان، والأخيرة يريد بوتين منها أن تتسبب في إحداث تفارق، أو اصطفاف جديد لدول الاتحاد الأوروبي التي توحدت في مواجهته وهو الذي راهن على عدم قدرتها على التوحد وتحديدا في ضوء معادلة اعتمادها على الطاقة الروسية.

إذا استطاع بوتين تغيير معادلة الأمن الأوروبي، عبر إشعال حرب البلقان، أو عبر إغراقها بموجات ضخمة من اللاجئين، فإنه سيوجه ضربة قوية إلى المخطط الأميركي، وسيضع أميركا في مواجهة شرط جديد، قد يُفضي إلى إشعال حروب أخرى في مناطق أخرى من العالم، ما يعني الذهاب إلى حرب واسعة، ستجتاح مساحات واسعة من العالم.

كل هذه السيناريوهات المحتملة تضع المنطقة العربية أمام مفترق بالغ الخطورة، فهي عدا كونها دولاً هشَّة وتابعة، فهي أيضاً لم تضع في حسبانها أبداً لحظة كهذه، وبالتالي لم تخطط لها فيما إذا افترضنا أنها قادرة على التخطيط أصلاً، وعليه فإن السؤال الأهم اليوم الذي تواجهه هذا الدول هو: أين ستقف في المعادلة العالمية الجديدة؟

المؤشرات التي تظهر من خلال وتيرة اللقاءات المتسارعة في المنطقة، والمواقف التي تصدر عن بعض الأطراف، ومن خلال التصعيد من قبل الحوثيين واستهدافهم للمنشآت النفطية في الخليج، أو بعض المؤشرات العسكرية في سوريا، كل هذا يعزز من احتمال نشوء مواجهة ما، تُفضي إلى معادلة سياسية جديدة فيها، معادلة تنهي المعادلة السابقة، وتذهب لصيغة جديدة، تحضر فيها إسرائيل كطرف فاعل وأساسي، في مواجهة إيران التي تحاول أن تنجز بأسرع وقت ممكن اتفاقها النووي، كي تتفرغ لحماية تحالفاتها وميليشياتها في المنطقة.

ربما ستكون قراءة موقف النظام السوري هي الأسهل على المهتمين باحتمالات التغيرات السياسية في هذه المنطقة، فسوريا لم تعد دولة قادرة على اتخاذ القرار، إذ تحولت بعد ما يزيد على نصف قرن من حكم عائلة الأسد، وبعد سنوات ثورتها الإحدى عشىرة، إلى دولة بالغة الهشاشة والضعف، دولة مخترقة بكل مفاصلها، محكومة من الخارج وتُدار من قبله، وبالتالي فإن موقفها أو اصطفافها في المعادلة الجديدة، لن يكون بدلالة مصلحتها، أو بدلالة أهمية استثمار موقعها الجيوسياسي لصالح شعبها، بل سيكون لمصلحة الأطراف الخارجية المتحكمة بها (إيران وروسيا)، ومن يراهن على فكرة إخراج سوريا من النفوذ الإيراني، فسيصطدم بحقيقة أن النظام السوري غير قادر على اتخاذ قرار كهذا، حتى لو أراد.

بوتين المسكون بعظمة روسيا والمهووس بدور القوة، قد يرى أنه من صالح روسيا إشعال الحروب في مناطق أخرى من العالم، سواء في البلقان أو سوريا، وصولاً إلى لبنان واليمن والخليج العربي عبر إيران

 قد تهدأ الحرب في أوكرانيا قليلاً، دون أن تتوقف، لا سيما أن القيادة الروسية تذهب إلى تقليص أهداف عملياتها العسكرية، واقتصارها على تحرير منطقة تؤمّن ربط شبه جزيرة القرم بالبرّ الروسي، وعلى إنهاء أي علاقة تربط إقليمي "دونيتسك" و"لوغانسك" بأوكرانيا، فهي تدرك جيداً أنها غير قادرة على مواجهة حرب استنزاف طويلة في مساحة واسعة، وبمواجهة مقاتلين أثبتت الأيام الأخيرة مدى قدرتهم وتصميمهم، ومدججين بأسلحة متطورة، لكن هذا لا يعني أبداً توقف المعركة، وبوتين المسكون بعظمة روسيا والمهووس بدور القوة، قد يرى أنه من صالح روسيا إشعال الحروب في مناطق أخرى من العالم، سواء في البلقان أو سوريا، وصولاً إلى لبنان واليمن والخليج العربي عبر إيران، كل هذا يضع احتمال أن تصبح منطقة الشرق الأوسط ساحة صراع عسكري جديدة، مثل أوكرانيا وسوريا، ساحة مفتوحة على احتمالات عديدة، ستحدد الدول الكبرى نفوذها وحضورها على ضوء نتائجها، لكنها بالتأكيد لن تكون في صالح معظم شعوبها ودولها.