لقد شوّهوك يا جدتي

2020.12.31 | 10:05 دمشق

134037585_1273405919692910_8461810226978859715_n.jpg
+A
حجم الخط
-A

من أكثر ما أشعر بالحنين إليه في دمشق، هو تلك النزهة التي كنت أقوم بها يوميا، سيرا على الأقدام، من بيتي المستأجر في منطقة المزرعة، باتجاه سوق الحميدية ، حيث أدخل السوق حتى أصل إلى ساحة الجامع الأموي، أجلس قليلا في الساحة، ربما أشرب كأس عصير رمان طازج في الصيف، أو كأس عصير برتقال أيام الربيع أو الخريف، في تلك الساحة حيث ( الستيتيات) يتآلفن بشكل نادر مع البشر، يكمن سر دمشق القديمة، إذ منها يمكن للزائر أن يدخل في زواريب وحارات متداخلة، تستقبل البشر بحنان، حيث يبدو شكل البيوت القديمة كما لو أنه حضن الأم، أو ربما حضن الجدة، فدمشق القديمة أقرب في حنانها إلى الجدة من الأم، الأم قاسية أحيانا، بينما الجدة تأخذك في حضنها وأنت الطفل المؤنب أو الحزين أو المشاغب وتمسح على رأسك بيديها العجوزتين، ثم تهدهد نفسك المتصاعد من البكاء أو الحزن بكلمات لا تفهمها غالبا، لكنها تفعل بك مفعول السحر فتهدأ مباشرة، لتعود بعد حين إلى شغبك وتمردك، كانت حارات دمشق القديمة بالنسبة لي هي تلك الجدة، يكفي الدخول إلى ساحة المسجد الأموي ثم المشي على غير هدى في تلك الحواري الضيقة كي أتخفف من كل غضبي وحزني،  أدخل إلى البزورية قليلا، أتعطر برائحة التوابل الفواحة، ثم أتخيل نفسي مغطاة بالذهب وأنا أتأمل واجهات المحال في سوق الصاغة، ثم أعود إلى محيط الأموي وأمشي في مكاني الأثير، سوق القباقبية، أتركه باتجاه قهوة النوفرة، أجلس على الدرج النازل من البوابة الخلفية للمسجد الكبير، ثم أمشي في الشارع حيث اللون الأحمر االغامق يطغى على باقي الألوان في البسط والسجاجيد والمفارش المعروضة في المحال، تعرف دمشق القديمة من هذا اللون، الأحمر النبيذي، الذي يتدرج نحو الأرجواني، بكل الدفء الذي يوحي به، في نهاية هذا الشارع أقف قليلا لأفكر هل أذهب إلى شارع الأمين قبل أن أدخل إلى حارات باب شرقي والقشلة ثم باب توما؟! أعرف تلك الحواري جيدا، أحفظ شكل بيوتاتها التي تحول معظمها إلى مطاعم وبارات وجاليريهات ومقاه، يجتمع فيها السوريون ومحبو دمشق من العرب والأوروبيين الذين يسكنون فيها، أو الذين يقصدونها في سياحة أو زيارة عمل أو دعوة ثقافية، تلك البيوت الحيادية من الخارج والمفتوحة على جمال استثنائي ما إن تدخل من أبوابها، ثمة هناك ما يتجاوز مصطلح العراقة أو الجمال، مزيج بين الاثنين في المعمار يختلط مع أناقة خاصة، بسيطة وغير متكلفة، لا فخامة فيها على طريقة القصور، لكن بساطتها من النوع السهل الممتنع، تشبه شعر نزار قباني الدمشقي المنشأ والهوى.

هل كان ما سبق مجرد كلمات في مديح دمشق القديمة وفي مديح الحنين إليها؟، حتما تستحق دمشق القديمة كل المدائح الممكنة، ولا أظن أن هناك  شخصا عاش في دمشق أو مر بها إلا ويشعر بالحنين إلى شوارع وحواري (الشام القديمة)، التي استقرت فيها على مدى التاريخ مجموعات بشرية مختلفة الانتماءات الدينية، ما زال ( حي اليهود) موجودا، ببيوته التي اضطر أصحابها إلى هجرتها خوفا من موجات (الغضب العربي) إبان الهزائم المتلاحقة التي مني بها العرب في الحروب مع إسرائيل، نتيجة التحريض الإعلامي  العقائدي ضد (اليهود) كمجموعة دينية، وليس ضد الصهاينة منهم، واللافت أن غالبية يهود دمشق لم يهاجروا إلى إسرائيل بل استقر معظمهم في الولايات المتحدة الأميركية، وهو أمر يستحق الانتباه له فعلا، حارة الأمين تلك تحولت في العقدين السابقين للعقد الأخير إلى حي للفنانين السوريين، عدد كبير من أهم الفنانين التشكيليين السوريين اشترى من الدولة، التي استولت على ممتلكات وعقارات اليهود، بيوتا وحولوها إلى مراسم خاصة، أو تجمعات ثقافية وفنية، كان مخططا لها أن تشكل حالة فريدة واستثنائية في المشرق العربي، لولا أن الثورة السورية قامت وغيرت معها كل شيء.

من بادر إلى تجميع عدد من المبتدئين في الرسم وفتح لهم جدران دمشق القديمة ليشوهوها برسومات لا معنى لها ولا هوية، ليست غرافيتي ولا هي تشكيل ولا تجريد، هي تماما كحقن الفيلر العشوائية التي تشوه وجه صبايا الشام

في 2011 مع بدء انطلاق الثورة السورية، انتشرت في دمشق ظاهرة ( البخاخ)، ذلك الشخص أو الأشخاص المجهولون الذين كانوا يكتبون على جدران دمشق كلمات تمجد الثورة والحرية والديموقراطية والتغيير، بواسطة بخاخات  تحوي موادَّ ملونة تباع عادة في محالّ أدوات الرسم ( بعد انتشار هذه الظاهرة دب الرعب في نفوس الكثير من أصحاب المحال، صاروا يخفون السلعة أو يدّعون عدم وجودها، بينما بقي بعضهم يبيعها سرا أو يقدمها مجانا إن كان مؤيدا للثورة)، ظاهرة البخاخ انتشرت أكثر ما انتشرت على جدران بيوت حارات دمشق القديمة، كان في الأمر تحديا سافرا للنظام، الذي اعتبر مشروع ترميم دمشق القديمة (على أهميته) أحد أهم إنجازاته، سكان تلك الحارات كان يصحون صباحا يقرؤون على جدران بيوتهم الخارجية كلمة (حرية ) باللون الأحمر، ليناموا مساء بعد أن يأتي عناصر الأمن والشبيحة ويغطون كلمة الحرية بصباغ أسود، كان للونين دلالة كبيرة على ما سوف يحدث في سوريا لاحقا. هذه الظاهرة لم تكن استثنائية في سوريا، سوى من حيث أن من كان يقوم بها، كان يضطر إلى ذلك في الصباح الباكر وبشكل سريع، خوفا من الاعتقال وما يليه، بينما مثلا  انتشرت ظاهرة الغرافيتي المؤيدة للثورة في الشوارع المؤدية إلى ميدان التحرير في القاهرة، وظل شارع محمد محمود إلى وقت قريب تتزين جدرانه بغرافيتي الثورة قبل أن يتم تغيير كل ما له علاقة برمزية الثورة في هذه المنطقة، وبالعموم ظاهرة الغرافيتي والكتابة على الجدران كانت دائما مرافقة للثورات الشعبية والاحتجاجات في كل العالم، وهي إحدى وسائل المقاومة الشعبية المدنية الأكثر رقيا، لما فيها من استخراج طاقات مختزنة، يفجرها الغضب والرغبة في التغيير، بدل أن يتحول ذلك الغضب إلى قنابل موقوتة تفجر كل شيء.

دمشق القديمة موضوعة على لائحة التراث العالمي من قبل منظمة اليونسكو، ما يعني أنها إحدى واجهات السياحة العالمية، وما يعني أيضا أن ما بدأ ترميمه عام 2008 كان يجب أن يستمر بطريقة تحافظ على أصالة المكان وهويته، وكان يمكن للفنانين الذين استوطنوا حي الأمين أن يحولوا دمشق القديمة إلى متحف حقيقي، يساهم في تنافسها عالميا مع أماكن مشابهة في الدول الأوروبية التي تضم حواري لاحقة لدمشق القديمة في الزمن والأهمية التاريخية، لولا أنه في زمن الرداءة  يشح الجمال إلى حد الندرة، وتتحول المبادرات التي يفترض بأصحابها نشر الجمال، إلى تشويه للجمال الأصلي، ومحاولات حثيثة لطمسه، شوه نظام الأسد القديم خلال عقود طويلة الجمال الخفي الذي كان في المجتمع السوري، وشوه نظام الأسد الحديث الجمال الظاهر والجلي في الطبيعة والمعمار السوري خلال العقد الأخير من الزمن، فليس من المنطق بمكان أن تكون سوريا مريضة ومشوهة بينما منطقة واحدة فيها تحافظ على وجهها الحقيقي، أكلت الحرائق غالبية المساحات الخضراء في سوريا، دمرت الحرب التي افتعلها النظام وأكملها حلفاؤه كل المناطق الجميلة في سورية، طال القصف الأماكن الأثرية في المدن وشوهها بالكامل، اشتركت الطبيعة مع الحرب البشرية في تدمير كل أماكن الجمال في سوريا البائسة، شوهت الحرب النفوس والأرواح، الحرب والقهر والذل والموت والحزن، شوهت حتى أشكال السوريات الجميلات، أراقب أحيانا وجوه صبايا دمشق الذين ما زالوا هناك فمن لم تشوه وجهها الحرب والفقر، شوهته كميات مهولة من الحقن والفيلر بحيث لا يمكن مشاهدة أي ملمح لذلك الجمال الرباني الذي ميز الدمشقيات والسوريات.

يفعلون في دمشق القديمة ذات الشيء، ثمة من بادر إلى تجميع عدد من المبتدئين في الرسم وفتح لهم جدران دمشق القديمة ليشوهوها برسومات لا معنى لها ولا هوية، ليست غرافيتي ولا هي تشكيل ولا تجريد، هي تماما كحقن الفيلر العشوائية التي تشوه وجه صبايا الشام، وهي تماما كتدمير جسر دير الزور المعلق، أو حريق غابات الفرنلق، أو حريق سوق حلب القديم، هي مبادرة فيها من التشبه بما يفعله النظام حد التزلف، يريدون دمشق القديمة شبيهة بهم، بكل القبح الذي بهم، والذي حقنوه في قلب المجتمع السوري زمنا طويلا حتى لم يعد من أثر لطبيعته الأصلية!

ربما من حسن حظ بعضنا أنه ما زال يحتفظ بحنين إلى دمشق التي تركها أول الحرب، لا يرى تشوّهها إلا في الصور، على الأقل ستبقى ذاكرته بمثابة مدونة تحتفظ بكل تلك التفاصيل الجميلة التي كانت في دمشق القديمة التي قد تعود جدرانها ذات يوم مفتوحة للرجل البخاخ ليزيل كل التشوه عنها بكلمة واحدة فقط (حرية).