لغة متخلّفة لكتّاب متطوّرين!

2019.12.17 | 15:19 دمشق

alywm-alalmy-llght.png
+A
حجم الخط
-A

اختارتِ الأممُ المتحدة يوم الثامن عشر من كانون الأول ليكون "اليوم العالمي للغة العربية"، فكان من بعض الناطقين بها أنْ حوّلوه إلى يومٍ لشتْمِ اللغة العربية والسُّخرية منها. وهنا أتحدّث عن "كتّابٍ" لهم كتبٌ في السوق، ونجوميّةٌ في مواقع التواصل، ما يعني أنّ مَرَضهم سريعُ العدوى والانتشار. لكن هل العربية لغة متخلّفة حقاً؟

أستهلُّ كلامي برأي للمفكّر محمّد أركون في كتابه "الفكر العربي"، حيث يقول إنّ "عملية التطوُّر اللغوي منوطةٌ بأوضاع المجتمع الـمُستعمِل للغة"، ويضيفُ أنّ اللغة تتطوّر أو تتأخّر تبعاً لتطوُّر الناطقين بها أو تأخُّرهم في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية. أما عندنا؛ فتجدُ بعض "الكتّاب" يصفون لُغتَهم العربية بالتخلُّف والتأخُّر عن الزمن، بينما يضعون أنفسَهم -من دون اللغة- في موضع المتطوِّر والمتحضِّر، ذاك الذي يملكُ حقَّ محاكمة لغةٍ أو ثقافة دون أنْ يعرفهما خير المعرفة، ولو كان من أبنائهما بحُكم مكان الولادة. والسؤال الذي يشغلني: كيف تطوّر هؤلاء "الكتّاب" جميعاً؛ ووَاكبُوا الحداثاتِ وما بعدها؛ من دون أن يُطوِّروا لغتَهم معهم؟ ولماذا تركتُم اللغة وحيدةً تئنُّ من البرد والتخلُّف؟!

وثمة فصيلٌ لا يرفضُ اللغة العربية جملةً، بل يرفضُ قواعدها من نحوٍ وصرف وإملاء، ويدعو إلى هجرها باعتبار أنها متخلّفة وجامدة ومستبدّة... إنها "ديكتاتورية اللغة" كما قالتْ إحدى الشواعر. في الحقيقة إنّ قواعد اللغة لا تنشأ خارج اللغة، ولا تُفرَض عليها من الخارج بقرارٍ من شيخٍ متزمّت؛ بل إنّ قواعد اللغة هي جزءٌ عضويّ منها، هي اللغةُ نفسُها، أي هيَ هيَ. ومن دون قواعد اللغة لما عرفنا الفاعل من المفعول به، ولا المتكلّم من المخاطَب. والغريبُ أنهم يتقبّلون قواعد اللغات الأجنبية التي يتعلّمونها بصعوبةٍ وجهدٍ وكدّ، ويمتثلُون لها برِضاً وإذعان، ثم يستكثرون على العربية أنْ يكون لديها ما لدى غيرها من اللغات.

لا أعتقدُ أنْ واحداً من هؤلاء "الكتّاب" الـمُشتكين من "تخلُّف العربية"؛ يعرف لغةً أجنبية حقَّ المعرفة، لأنه سيجد في قواعدها الكثير من الحالات الغريبة التي لا تخضع لمعايير محددة أو تتوافق مع المنطق. فإذا أخذنا اللغة الإنكليزية باعتبارها الأكثرَ انتشاراً في بلداننا، نجد أنّ معظم مَنْ يعرفونها هُمْ إما في المستوى المبتدئ أو المتوسّط، ويَندرُ أنْ تجدَ مَنْ هُم في المستوى المتقدّم. فمَن يصل إلى المستويات المتقدمة سيجد فيها قواعد سماعيّة لا قياسيّة، ولا تخضع لمعايير محددة، وقد يُخطئ فيها الناطقون بها كـلُغةٍ أُمّ. أشيرُ مثلاً إلى قاعدة الصفات القوية والصفات المطلَقة (extreme and absolute adjectives)، وقاعدة التوافق بين الأفعال والأسماء والصفات والظروف (collocation)، وقاعدة استخدام الكلمة المناسبة للعدد "صفر".

غالباً ما تفتخرُ الشعوب بلغاتها وتعتزّ بها، ولا تفتخر كثيراً بتعلُّم لغة أجنبية، ولو أنه أمرٌ حسَن

غالباً ما تفتخرُ الشعوب بلغاتها وتعتزّ بها، ولا تفتخر كثيراً بتعلُّم لغة أجنبية، ولو أنه أمرٌ حسَن. أما عندنا فتجد مَن يسخر من لغته ويستهزئ بها، وقد يفتخر بعدَم معرفتها وهو يقدّم نفسَه كاتباً بها! وهنالك مَنْ يجهدُ في إدخال مفردات أجنبية في سياق حديثه، لكي يظهرَ بمظهر المتحضّر المتطوّر، وما هذه إلا عُقَدُ نقصٍ مزمنةٌ تجاه الذات. ومع الهجرة الجماعية إلى الغرب في السنوات الأخيرة، راحَ المتعلّمون الجدُدُ للغات الأجنبية يعقدون مقارناتٍ بينها وبين لغتهم العربية. وهي مقارنات محسومة النتائج سلفاً، فالنتيجة موضوعةٌ قبل المقدّمات، وهي إطلاقُ صفات التخلّف والجمود وعدم مواكبة العصر للغة العربية، في مقابل إطلاق صفات التطوّر والحيوية والمعاصرة على اللغات الأوروبية.

ربما لا يعرف هؤلاء "الكتّاب" أنّ معظم ما يقولونه عن اللغة العربية هو تكرارٌ لمقولات المستشرق الفرنسي آرنست رينان، بعدما تبنّاها عددٌ من المنظّرين العرب، وراحوا يكرّرونها طوال القرن العشرين. ولا تنحصر مشكلة رينان في كونه عنصرياً يفتخر بعنصريّته فحسب، بل في كون المنهج الذي اتّبعه في دراسة اللغات الساميّة منهجاً غير سليم من الناحية العلمية. وفي كونه قد حدّد الغاية من دراسته قبل الشروع بها، وما هذه الغاية سوى إثبات تخلُّف الساميّين وجمودهم وانحطاطهم الأخلاقي والبيولوجي، في مقابل إظهار تطوُّر الأوروبيين وحيويّتهم وسُمُوّهم الأخلاقي والبيولوجي.

لا حاجة للتوقف عند عنصرية رينان المعروفة، لكنني سأبيّن فقط المنهج الذي توصّل رينان من خلاله إلى الحكم على اللغات الساميّة (على رأسها العربية) بالتخلُّف والشذوذ. فلقد درسَ رينان اللغات السامية، بنحوها وصرفها وإملائها وألفاظها، ثم قيَّمها وحاكمها وأطلقَ عليها نتائج "عِلمية"، بالاعتماد على معيارٍ من خارجها، وهو اللغات الأوروبية بنحوها وصرفها وإملائها وألفاظها. فهو يضع اللغات الأوروبية -اللاتينية مثلاً- معياراً وحكَماً، ثم يقارن العربية بها، فما يجدُهُ من تشابهٍ وتوافقٍ يعتبره أمراً جيداً، وما يجدُهُ من اختلافٍ وتباين يعتبره شذوذاً وتشُوُّهاً. لذا سوف تكثُرُ مظاهرُ الشذوذ والتشوّه في اللغات السامية وفقاً لهذا المنهج، وهو يقول في ذلك: "إن مظاهرَ شذوذها يحدّدها انتظامُ قواعد اللغات الهندو-أوروبية".

العملية الثانية التي يقوم بها رينان، بعد دراسة اللغات وإضفاء صفاتٍ عنصرية ثابتة عليها، هي نقلُ هذه الصفاتِ والأحكام من اللغة إلى الناطقين بها، وكأنّ اللغة هي التي تخلقُ المتحدثين بها وتحدّد صفاتهم، وهي مَنْ تحكم عليهم بالتطوّر والحيّويّة أو التخلُّف والجمود. من هنا -ربما- جاءتْ تلك الفكرةُ العجيبة إلى بعض المنظّرين العرب، فكرة أن اللغة هي التي تدفعُ الناطقين بها نحو الأمام أو الوراء، ولذلك اشتغلوا لسنواتٍ على "تثوير اللغة" أو "تفجير اللغة"، وفي النهاية ثارتِ البلاد العربية وتفجّرتْ قبل اللغة ومن دونها. وكما يقول المثل: "اللي خلّف ما مات"، فإنّ مقولات رينان العنصرية ما زالت تتكرّرُ على ألسنة بعضٍ من مثقفينا حتى اليوم، مثل: "اللغات الساميّة ميّتة وجامدة وغير عضوية وغير توليدية، والساميّون أيضاً ليسُوا شعوباً حيّة"، وقوله: "يتّسم وعيُ الساميين بالضيق والجمود، إنهم تركيبة متدنيّة من الطبيعة البشرية". وأشيرُ إلى أن كلماتٍ مثل "العرب" و"الساميّون" و"الشرقيّون" هي تعني الشيء ذاته عند رينان.

وفي النهاية لا يحتاج الردُّ على هذه الأقاويل سوى المقارنة بين مقالٍ صحفي منشور اليوم، ومقالٍ من بداية القرن العشرين؛ لنرى ما تغيَّر في اللغة من مفردات وتراكيب وأسلوب. ولنا في مسيرة الشعر العربي خلال القرن العشرين دليلٌ آخر. وإذا كانت اللغة العربية "متخلّفة" حقاً، أو تعاني "الجمود" فعلاً، فإن ذلك يعود إلى تخلُّف كُتّابها والناطقين بها، وليسَ عجزُ أولئك "الكتّاب" وفشَلُهم وتأخُّر الشعوب يعودُ إلى اللغة بذاتها.