لعنة الجيوش وانتهاك السياسة

2023.04.19 | 06:21 دمشق

عزمي بشارة "الجيش والسياسة"
+A
حجم الخط
-A

لا يكل المفكر عزمي بشارة ولا يمل من التنبيه إلى ضرورة أخذ إشكالية الجيش والسياسة في المنطقة العربية على أنها المشكلة الأساسية التي تقف في وجه الانتقال الديمقراطي منذ نحو ما يزيد على قرن من الزمان (منذ تأسيس الجيش السوري عام 1920 على يد الفرنسيين). وما كتابه "الجيش والسياسة: إشكاليات نظرية ونماذج عربية" الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2017، سوى غيض من فيض من الدراسات التي كتبها حول هذا الموضوع. وما الصراع العسكري الذي اندلع في السودان قبل أيام بين الجيش السوداني وفصيل من داخله (قوات الدعم السريع) سوى آخر فصل من فصول لعنة تدخل الجيوش العربية في السياسة، تلك اللعنة التي تحل على المنطقة من حين لآخر، وتذهب ضحيتها قوى التحرر في إحدى البلدان العربية.

بالنسبة لبشارة فإن الجيوش في المنطقة العربية كثيرا ما تستغل عدم اكتمال نشوء الدولة الوطنية العربية لتستولي عليها وتقوم بتمثيلها. هكذا يتحول الجيش إلى مجرد "قوة قمعية" تعتقد أن مهمتها الأساسية الحفاظ على النظام الحاكم وفرض الاستقرار بالقوة. وبذلك لا تعود من مهمة للعسكر سوى التفكير بتقوية نفوذهم، وزيادة امتيازاتهم في مختلف المجالات (وهذا ما يفسر تحول الجيش للعمل في الاقتصاد والتجارة بشكل واسع في مصر وسوريا ودول أخرى وبطريقة قانونية). في وضع كهذا لا يعود يهتم العسكر إلا بالسياسة "بالمعنى الضيق"؛ أي الحكم.

ومشكلة تدخل الجيش في السياسة عند بشارة قديمة، حتى إنها تعود إلى أيام أفلاطون الذي حذّر من توسع مجال عمل الحرّاس وتدخلهم في شؤون لا تعنيهم. غير أن الجيوش ليست بعيدة كل البعد عن السياسة فحماية حدود الوطن في النهاية أمر يتعلق بالسياسة. مثلما أن قادة الجيوش في الدول الديمقراطية على اطّلاع كامل بالأوضاع السياسية للبلاد ويجرون تقييما دائما لها. ولكن الجيش هناك يأتمر بأوامر حكومات منتخبة، والحكومة لا تمثل نفسها بقدر ما تمثل سيادة الدولة. وعلى ذلك فإن تسييس الجيش أمر ضروري عندما يكون الحكم ديمقراطيا.

تفضّل الجيوش في البلدان غير الديمقراطية سياسة عسكرة المجتمع، وإجهاد المدنيين والأحزاب السياسية بحروب وصراعات طويلة

أما مشكلة الجيوش في منطقتنا العربية فتعود إلى أنها لا تقبل بأي إصلاحات حقيقية تنال من امتيازاتها وتسعى إلى توزيع العدالة بين الجميع. بل إن مثل تلك الإصلاحات كثيرا ما تؤدي إلى انقلاب العسكر على بعضهم بعضا (حصل ذلك في الجزائر وفي السودان غيرَ مرَّة). ولذلك يعتقد بشارة أن الاصطلاحات الحقيقية والجذرية هي مفتاح الحل في المنطقة، حتى ثورات الربيع العربي يقرؤها على أنها محاولات جريئة وعنيدة لإجبار الجيوش العربية الحاكمة على القيام بإصلاحات واسعة تساعد في استكمال أركان دولة القانون والعدالة.

وتفضّل الجيوش في البلدان غير الديمقراطية سياسة عسكرة المجتمع، وإجهاد المدنيين والأحزاب السياسية بحروب وصراعات طويلة، أو تثبيت حالة دائمة تترقب الحرب، وهي حالة يسميها بشارة "الدولة الثكنة". بحيث يتعايش المجتمع المدني مع دور استثنائي دائم للعسكر طالما أن البلاد في حالة غير مستقرة. إنها "حالة الاستثناء" التي يقول عنها كارل شميث إنها أفضل استراتيجية لكي تمنح نفسك إجازة طويلة من "الأخلاق"، أو هي حالة تسمح لك بقتل الآخرين "بضمير مرتاح"، على حد وصف إمارايا صن.

وإذا كان الغرب كثيرا ما يفضّل التعامل مع أنظمة عسكرية في آسيا وإفريقيا بحجة أنها "قوى تحديث يمكن الاعتماد عليها"، لا سيما أن بعض المستشرقين والخبراء الذين يعملون مع الحكومات الغربية ينظّرون بأن العالم العربي لا يعرف الفرق بين الحالة المدنية والحالة العسكرية، وأن العسكر نهضويون وإصلاحيون أيضا، فإن بشارة لا يقبل بمثل تلك التفسيرات المتحيزة، لا سيما أن العسكر يمثلون أكبر حجر عثرة في طريق الإصلاح والنهضة في المنطقة، مثلما هم أكبر قوة ليس لها مصلحة بالديمقراطية.

وفي زمن ثورات الربيع العربي تبيّن أن الجيوش العربية أكثر تنظيما من القوى الشعبية التي تسعى للتغيير وإحداث اختراق حقيقي في طريق الانتقال إلى الديمقراطية. وهذا يطرح تحديا كبيرا على النخب المعارضة من حيث إنها تسببت، غيرَ مرة، في ضياع ثورات شبابية رائعة لأنها لم تكن تعي تماما ماذا تعني "العملية الانتقالية" أو ما يسميه بشارة " خيانة المثقفين للديمقراطية". فقد بيّنت التجارب الثورية العربية أن القوى السياسية المدنية كثيرا ما تختلف بينها قبل بناء الديمقراطية الوطنية، وهو الأمر الذي يسمح للجيوش بالالتفاف والعودة إلى سدة الحكم في عملية تراجيدية تكررت عشرات المرات، ولكن0 لا أحد يريد أن يتعلم.

وبالعودة إلى الوضع السوداني المتفجر اليوم، يبيّن كتاب "الجيش والسياسة" أن السودان لم يكن دائما مزرعة للعسكر، وأن هناك تجربة ديمقراطية كان لها شأن وإن كانت قصيرة. وأن انتخابات عام 1954 كانت ديمقراطية وتولى بعدها الحكم أحزاب سياسية مدنية، ولم يكن للجيش دور أساسي في السياسة والحكم. ولكن السودان دخل بعد ذلك مرحلة انقلابات عسكرية هي الأنشط في المنطقة العربية. وعرف عن عسكرها أنهم يتحالفون مع أحزاب من اليمين ومن اليسار، وتتنوع القوى التي يتحالفون معها بين القومي والديني والليبرالي والاشتراكي، لا يهم، المهم أن يجدوا لهم حليفا يساعدهم. حتى إن الرئيس النميري تحالف مع الشيوعيين ثم انقلب عليهم، وتحالف مع الإسلاميين، بل وزايد عليهم، لدرجة أنه قتل بعض قياداتهم بحجة أنهم لا يلتزمون بالشريعة. أما الرئيس عمر البشير فقد تحالف مع الإسلاميين ثم انقلب عليهم، وهكذا.

الجيوش ليست وحدها هي المشكلة، بل إن النخب العربية المعارضة تتحمل أيضا جزءا كبيرا من المسؤولية

الدرس الذي يقدمه السودان، بحسب بشارة هو أن الجيش لا يستطيع أن يستمر في الحكم من دون القوى السياسة المدنية. وهذا خبر سارّ، ولكنه يتطلب الانتباه من قبل جميع السودانيين. أما الخبر غير السارّ فهو أن الجيش السوداني يضم طيفا واسعا من المنتسبين للأحزاب، ولكن مشكلة هؤلاء أنهم قد لا يتحمسون كثيرا للديمقراطية إذا كان الجيش سيتعاون مع أحزابهم. وفي كل الأحوال يبقى سقف غالبية الانقلابات، في السودان أو في غيره من البلاد العربية، "تغيير الحاكم مع الحفاظ على النظام".   

وهذا يعني أن الجيوش ليست وحدها هي المشكلة، بل إن النخب العربية المعارضة تتحمل أيضا جزءا كبيرا من المسؤولية. وبالعودة للحالة السودانية، فإن ما قد يحسم المشهد (بحسب نظريات كتاب الجيش والسياسة) ليس القوة العسكرية وانتصار أحد الفريقين المتحاربين، بل الموقف الصلب للقوى السياسية السودانية (وهو موقف ما زال متماسكا بدرجة كبيرة)، لا سيما أن السودان يمثل ثورة إصلاحية شبه نموذجية. ويبدو أن انقسام الجيش ودخوله في صراع عسكري داخلي يعود إلى تمسك قسم منه بامتيازاته، وتخوفه من الإصلاحات التي يعد بها "الاتفاق الإطاري". طبعا في مثل وضع كهذا فضّل العسكر خلط الأوراق والعودة إلى سياسة الانقلابات السيئة الصيت، حتى لو أدى الأمر إلى تدمير البلاد.