لحن ماثوركا على ميّتين: قاسم سليماني وأبي بكر البغدادي

2020.01.23 | 23:07 دمشق

350.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا يُعزف لحن ماثوركا إلا في لحظات دقيقة معينة وجليلة جداً. هذا اللحن مثل قدّاس مرتَّل! له زمنه ووقته.

لحن ماثوركا لحنٌ خاص لا يُعزف دائماً. هو لحن الحزن العميق. لحن المرارة يُعزف على روح الضحية، وهو لحن الفرح الغامر. لحن البهجة يُعزف حبوراً بقتل قاتل الضحية. اللحن نفسه لا يختلف لكن القتيل يختلف.

إنه لحنٌ لا يُعزف إلا للشخصيات الروائية والسينمائية، فقد عزفه غودنيثو الأعمى على مقتل آفوتو غدراً على يد "فابيان مانغيلا ابن القحبة صاحب العلامات التي تتسم بكل صفات النذالة والغدر"، وعَزَفه فرحاً حين قُتل "فابيان مانغيلا وظلت تنهشه الكلاب حياً حتى مماته".

وعزفته فرقة (الولاية) لمقتل البطل السينمائي قاسم سليماني. بطل الرعب والكوابيس، فـ "هو رعبٌ محضٌ، وكابوسٌ يجب أن يخرج لقتاله باتمان، وسوبرمان، وسبايدرمان"(1)، وعزفته جوقة سالي جونز (أم حسين البريطاني) لمقتل أبي بكر البغدادي الذي لا يقل بطولة عن سليماني، البطل الذي نُصر بالرعب السينمائي، بما في ذلك السواك الذي يستاك به عند كل وضوء، فيظن أولئك الأبطال (باتمان، وسوبرمان، وسبايدرمان) أنّه يسنّ أسنانه ليأكلهم وهم أحياء فتهبط معنوياتهم إلى درجة الصفر كما يقول رولان بارت.

ــ إذن فقد قُتل سليماني!

ــ نعم قُتل كما قُتل من قبله البغدادي. وإنّا لله وإنا إليه راجعون، وإنّ لله جنوداً من عسل، وإن لأمريكا جنوداً من الدرون.

ـــ وماذا قرّر المخرج؟

ــ قال المخرج: "ماذا نصنع بالقتلى؟ الأشياء الثلاثة المعتادة: الصلاة عليهم، ودفنهم، والثأر لهم".

ــ وهل ثأر لهم؟

ــ ثأرُ البغدادي تأخر. أما ثأر سليماني فما زال في بدايته. قُتل مئة وستة وسبعون

بعض الموتى يثير الأسى، وبعضهم يبعث على الضحك، وآخرون يبعثون الخوف، كالغرقى وضحايا الوباء، وبعضهم، على العكس من ذلك، يبعث على الضحك

من ركاب الطائرة الأوكرانية قرب طهران، وأكثر من مئتي طفل وامرأة وعجوز ورجل في سوريا، وبعض المتظاهرين في بغداد، وفُقئت بعض الأعين في بيروت. الحصيلة لم تنته.

ــ هل رأيته بعد استهدافه بالصاروخ؟

ــ نعم. كان يبدو كالميت. الجسد في مكان، واليد والخاتم في مكان آخر.

ــ "بعض الموتى يثير الأسى، وبعضهم يبعث على الضحك، وآخرون يبعثون الخوف، كالغرقى وضحايا الوباء، وبعضهم، على العكس من ذلك، يبعث على الضحك، خاصةً بعض المشنوقين حين تحركهم الريح"! هل أثارك مقتل سليماني؟

ــ لم يثرني، ولكنه أثار موجة عارمة من المشيعين البكّائين في لبنان والعراق وإيران، وموجهة عارمة أخرى من توزيع حلوى البقلاوة في سوريا ولبنان والعراق والأردن وفلسطين. أحد المتأثرين المثارين زاد وزنه ثلاثة كيلو من الغرامات في غضون ثلاثة أيام.

"ليس السوء في أن نموت، وإنما أن يُعلم بموتنا. السوء هو الضحكة التي يبثها الموت في نفوس الأحياء الباقين".

لقد بثّ موت سليماني والبغدادي الكثير من الدموع، والكثير الكثير من الضحك.

عُزف لحن ماثوركا لمقتل لاثرو كودسال. كان يبدي مهارة فائقة بإحبال الفتيات، وعُزف لمقتل البغدادي. كان يبدي مهارة فائقة بقتل المقاتلين إضافة إلى إحبال الفتيات، أما سليماني فأبدى مهارة خارقة بحصار المدنيين وتجويعهم ثم قتلهم وإبادتهم.

عُزف لحن ماثوركا ابتهاجاً بقتل فابيان منغيلا الذي لم يقتل أكثر من دزينة من الرجال. فابيان "الذي مضى في دروب الحياة حاملاً علامات ابن القحبة".

الله مميت وسليماني قاسم.

قسّم الموت على مزاجه: ثُمنٌ للبنان، ومثله لإيران، وثُمنٌ للعراق ومثله لليمن، ونصفٌ لسوريا بلاد معاوية ويزيد. جعلها قاسم قبراً بدون قعر. قبراً لا يمتلئ أبداً من أجساد الأطفال والنساء والعجائز والرجال والمقاتلين، ولو امتدّ به الزمن لضرب لمصر عمرو بن العاص بسهم وافر ونصيب مجز.

"من علامات ابن القحبة النظرة الشاردة. كان فابيان منغيلا حتى في الظلمة لا ينظر مباشرة". ومن علاماته أيضاً النظرة الزائغة. كانت نظرات سليماني زائغة! عينه اليمنى على حزب الله والسيد حسن نصر الله، وعينه اليسرى على حزب البعث العربي الاشتراكي والسيد بشار الأسد.

إنها النظرة الأممية الإسلامية الجديدة التي فاقت كل التوقعات. أممية التوليف الخارق ما بين سجادة الصلاة وقنينة الفودكا، والجمع المقدس ما بين باسم الكربلائي وعلي الديك، وزينب وساشا، والحسين وبطرس، تجللهم جميعاً عباءة صاحب الزمان الممتدة المنبسطة أكثر مما نتصور، وفوق ما نتصور. كانت عينا سليماني على حزب الله وحزب البعث، لكن قلبه كان معلقاً بصاحب الزمان.

ــ وكيف كانت أممية البغدادي؟

ــ كانت أسدية بامتياز. أممية متجانسة، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً.

و"من علامات ابن القحبة الدنيء الأصل القضيب المترهل المسترخي. كانت العواهر في محل لابروتشا يسخرن من قضيب فابيان منغيلا: يبدو مثل قضيب أحد الملائكة الصغار المحيطة بصورة مريم الطاهرة".

قاسم سليماني كان ملاكاً أيضاً. ملاك موت بدون قضيب، بل بمنجل حاد فقط! يحصد به الأرواح، وهو ينشد أنشودته المفضّلة. أنشودة آهنگران:

سوي ديار عاشقان

بهر ولاي عشق او

گرفته ايم جان به كف

هستي خود براه خود

ما به جوار كبريا

رو به خدا ميرويم

به كربلا ميرويم

ونثار جانان كنيم

البغدادي، أيضاً، أنشد وغنّى، ولكنه على عكس سليماني كان نغلاً بغرمول حمار. غرمول طويل لكنه تقي، تماماً مثل السيد الرئيس السوري طويل ولكنه ذكي! ولذلك فقد تزوج البغدادي الفتاة الألمانية ديان كروغر حتى يتألّف قومها الألمان، وتخالط بشاشة الخلافة قلوبهم، كما يخالط غرموله أحشاء ديان ويقف عند حدّه لدى ترقوتها.

ــ ألم أقل لك إنه جحش!

ـــ نعم وكان ينشد وهو يباشرها:

صليل الصوارم نشيد الأباة

ودرب القتال طريق الحياة

فبين اقتحام يبيد الطغاة

وكاتم صوت جميل صداه

به عزّ ديني وذلَّ البغاة

فيا قومي هبّوا لدرب الكماة.

ثم كان ينظر لشيئه ويقول لديان: انظري كيف هبّ ودبّ!

أما سليماني فلم يسبِ النساء، فقد كان ملاكاً بدون قضيب، لذلك اكتفى بمحاصرتهن وتجويعهن، ثم بدكّ منازلهن وأقبيتهن. إنه من رجال الله الذين طلقوا الدنيا، ولم يعرف حبها إلى قلبه سبيلاً.

قاسم سليماني بطل خارق. يفوق "باتمان، وسوبرمان، وسبايدرمان"، وما بين سنتي 1980 2020 قتل آلاف البشر، وجوّع ألاف الأطفال والنساء والعجائز، والآن تفوح من جسمه رائحة الموت والبارود.

"من علامات اللئيم ابن القحبة أن تكون يداه ناعمتين رطبتين باردتين"! ويكون ابن قحبة وشلكة حين يكون لسانه رطباً. رطباً بذكر الله، ويداه لزجتين ملوثتين بالدم تتقاطر من أطراف أصابعها الدماء، وتسيل من حوافها الأرواح.

و "من علامات ابن القحبة اللحية المتناثرة". ويرى بعض الناس

لقد تعب الناس من هؤلاء الصفر الشاحبين الذين زرعوا الموت. وجه سليماني أصفر شاحب، ووجه البغدادي أزرق مظلم وشاحب أيضاً

أنّه يمكن أن تكون لحية ابن القحبة منتظمة كذلك بل وكثّة. كانت لحية سليماني منتظمة، ولحية البغدادي كثّة.

و"من علامات اللئيم ابن القحبة [الذي يُعزف له لحن ماثوركا إذا قُتل] الوجه الشاحب كالأموات"!

نعم! لقد تعب الناس من هؤلاء الصفر الشاحبين الذين زرعوا الموت. وجه سليماني أصفر شاحب، ووجه البغدادي أزرق مظلم وشاحب أيضاً.

تقول الرواية: "حين تنفجر مجاري الدم يغرق كل شيء في الدم الذي سيبطئ طويلاً حتى يجف".

وتقول: "هنالك قتيل آخر، لكنه لم يُقتل إلى الآن، جميعنا ننتظر خبر قتله. متى؟ لا ندري"، و"تنتهي القصص دائماً بنقطة. متى يُقتل اللئيم ابن القحبة يبلغ كل شيء نهايته".

 

حاشية:

(1) انظر: "قاسم سليماني: ذكريات وخواطر"، ص 10.