لجنة كينج كراين.. إحصاءات دقيقة سبقت الانتداب الفرنسي

2022.05.02 | 06:05 دمشق

447.jpg
+A
حجم الخط
-A

كان دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى وإرسالها مليوني جندي إلى جبهات القتال في أوروبا عاملا حاسما في إنهاء الحرب، قاوم الرئيس الأميركي ويلسون كثيرا وتحمل استفزازات حرب الغواصات الألمانية ولكنه في النهاية وجد نفسه يدخل الحرب رغم مبادئ الولايات المتحدة التي كانت تعلن عن حرصها على اتخاذ وضع الحياد الدولي وتتبنى نزوعا نحو تدويل الديمقراطية ونشر السلام. حمل ويلسون أربعة عشر مبدأ أراد طرحها في مؤتمر باريس للسلام لتكون نواة لسياسة دولية جديدة، يمكن أن تبني سلاما عاما، كان من ضمن مبادئه تأسيس عصبة الأمم المتحدة كتجمع سياسي مهمته توطيد السلام الدولي.. ويلسون صاحب الطرح "المسالم" كان أول رئيس أميركي يأتي من الجنوب بعد الحرب الأهلية الأميركية، جاء ومعه إرث عريض في الفصل العنصري، فأكده بالقول والفعل حين فصل السود الأمريكان في أماكن العمل والطعام والمراحيض وحض على هذه السياسة في كل مؤسسات الدولة، لكن لا يجد هذا الرجل غضاضة في حمل أفكار سلمية إلى العالم تلقفها بلهفة عروبيو سوريا والحالمون بالديمقراطية والسلام، ولاذ بها من توجس من إعلان اتفاقية سايكس بيكو، وتمسك رجالات السياسة في سوريا بالمبدأ الأول الذي لا يعترف بأي اتفاقيات سرية جرت في أثناء الحرب وظنوا أن ويلسون يمكن أن يعمل كدرع حماية لهم، وزاد إيمانهم به بعد أن شكل لجنة سياسية لسبر أغوار المنطقة السورية والوقوف على رغبات من فيها حول شكل الجسد السياسي الذي يحلمون به، فاستدعى كلا من كينج وكرين وشكل لجنة لإعداد تقريره.

يعتبر تشارلز كرين نصف فيلسوف مع خلفية سياسية تجري خلف أفكار ويلسون، أما هنري كينج فرجل أعمال ناجح لديه فضول سياسي، شكَّل مع زميله كرين ثنائيا ضم مستشارين آخرين، وصلت اللجنة إلى حيفا لإعداد الدراسة، وتحركت في الجغرافيا المسماة سوريا الطبيعية مصطحبة معها كاميرا وأوراقا وأقلاما وبعض المحليين، فقابلت وفودا ومخاتير وشخصيات وأفرادا عاديين وتلقت رسائل والتماسات وطلبات ورغبات، وضعت كل ذلك أمامها، وبصبر سائح يستمتع بالوجود في منطقة مختلفة المناخ والثقافة والمزاج، ثم أعدت تقريرا يعتبر وثيقة تاريخية لديها صدقيّة حول المزاج السياسي والتكتل الإثني والمناطقي، ولمست بحرارة مدى حساسية الشارع السياسية وعلاقته بالماضي والحاضر، خاصة أن المنطقة تمر بنقطة انعطاف ثقافي مهم هو التحول من وضع الدولة التابع للدولة العثمانية إلى كيان مستقل، وترى في الأمير فيصل أملا سياسيا وشكلا للحكم.

زارت اللجنة 35 مدينة في مجمل الأراضي الداخلة تحت مسمى سوريا الطبيعية وتظهر سجلاتها أنها التقت وفودا من 1520 قرية وبلدة بجوار المدن التي تمت زيارتها

زارت اللجنة 35 مدينة في مجمل الأراضي الداخلة تحت مسمى سوريا الطبيعية وتظهر سجلاتها أنها التقت وفودا من 1520 قرية وبلدة بجوار المدن التي تمت زيارتها، استطاعت اللجنة عبر الزيارات الميدانية والوفود التي تم الالتقاء بها الخروج بإحصائيات مهمة تعكس التوزع المذهبي والديني والإثني في ذلك الوقت المبكر من القرن العشرين، وهي معلومات لم تكن متوفرة بهذه الدقة لسلطات العثمانيين، وقد تكون المعلومات التي نشرتها اللجنة قد شكلت قاعدة بنت عليها القوتان الرئيسيتان اللتان احتلتا المنطقة (فرنسا وبريطانيا) حقائق وإجراءات جديدة. بالإضافة إلى الزيارات والوفود تلقت اللجنة التماسات قدمت مكتوبة من جمعيات وشخصيات مستقلة وأحزاب وتجمعات مهنية وصناعية واجتماعية مختلفة بلغ عددها 1862 التماسا، معظمها ذو مضمون سياسي، وليطمئن قارئ التقرير النهائي للجنة فقد اصطحبت معها فريقاً قام بالتقاط صور للوفود واللجنة والشوارع وأناس عاديين يمارسون أعمالهم حتى إنها التقطت صورة طريفة لبائع ليموناضة في أحد شوارع دمشق.

سجلت اللجنة كل رأي استمعت إليه في تقريرها، ولم تنسَ أن تعدد الظروف التي واجهتها في تنقلها من مكان إلى آخر وصعوبة الطرقات والطقس، فبدأت في استعراض طريقة عملها والإحصائيات التي خرجت بها

سجلت اللجنة كل رأي استمعت إليه في تقريرها، ولم تنسَ أن تعدد الظروف التي واجهتها في تنقلها من مكان إلى آخر وصعوبة الطرقات والطقس، فبدأت في استعراض طريقة عملها والإحصائيات التي خرجت بها، وكانت بيانات على قدر كبير من الأهمية لشموليتها ودقتها، فقد بينت عدد سكان المدن والمقاطعات وتوزعهم الديني والطائفي، وتوجهاتهم السياسية ولم يخفَ عليها الدعايات المختلفة التي تروج لكل تيار والتي تم نشرها لكسب رأي الوفود أو تلك التي تدخلت في صياغة الالتماسات لتظهر بالشكل المراد، فمن بين 1862 التماسا وجدت اللجنة أن 1364 التماسا لها صيغ شبه متطابقة وهو ما استشفت منه اللجنة أن ثمة تلقيناً جرى لكثير ممّن كتبها، بيد أن اللجنة نوهت بتيار قوي يرغب بالاستقلال التام "الناجز" على حد قول الالتماسات، وإذا تعذر ذلك فمساعدة أميركية وإذا تعذر فانتداب بريطاني، مع "لا" كبيرة لانتداب فرنسي لكن مع الإشارة إلى أن نسبة مرتفعة جدا جاءت بقبول أو توصية بانتداب فرنسي من المناطق التي تقع تحت سيطرة فرنسا في لبنان الحالي، كانت اللجنة شديدة الشفافية بتقديم النسب المئوية التي حصلت عليها ومثلت بكثير من النزاهة الآراء المختلفة التي جمعتها بجداول إحصائية، ولكن خلاصتها كانت انعكاسا لإيمان يبدو مبيّت في ضمير هذه الجماعة فقد قدم السيدان كينج وكرين خلاصة مفادها ما يلي:

إن أي إدارة أجنبية تأتي إلى سوريا لا ينبغي أن تأتي بصيغة استعمارية بالشكل القديم، بل يجب أن تأتي بصيغ إدارية وثقافية تساهم في تطوير البلاد، ويجب أن تقوم بمهام تطوير الشعب وتدريبه على قيادة نفسه، ويجب أن يقوم الانتداب بإنشاء جميع المؤسسات الديمقراطية اللازمة لهذا الشعب كي يتابع مسيرته بنفسه، ويجب أن تكون مدة الانتداب محددة، ولا يفهم من هذا الكلام أن المدة يجب أن تكون قصيرة، بل يجب أن تكون مدة كافية لتحقيق كل الأهداف السابقة.. طبعا لا ينسى التقرير أن يشدد على ضرورة احترام الحريات الدينية ولا ينسى أيضا أن يتم تحديد دقيق لحدود سوريا. ولكن الرئيس ويلسون بكل أسف لم تتح له فرصة قراءة هذا التقرير إلا بعد دخول فرنسا إلى سوريا كمنتدب، وطبقت فرنسا روح هذا الكلام لكن بمفهومها الخاص.