لبنان كهف المسيحيين وجاهلية السنّة

2020.02.19 | 23:00 دمشق

lobnan-hriri-awon-bri-oie.jpg
+A
حجم الخط
-A

في توصيف لبناني، لعقليتي التفكير المسيحية والسنيّة، خلاصته أن تفكير المسيحيين لا يزال في الكهوف، وتفكير السنّة عالق في الجاهلية. يتصارع الطرفان تاريخياً ويلتقيان، ويمثّل لبنان خير الدلائل على دورة الزمن بينهما، صراع لفترة، وتلاقٍّ في حقبات. غالباً ما كان ينتصر عقل الكهوف على عقل الجاهلية. المقصود بعقل الكهوف، هو الانعزال وعدم الخروج إلى الرحب الوطني أو العربي الأوسع. والمقصود بعقل الجاهلية، هو الإقامة في التاريخ رفضاً لأي تقدّم، مع ما يعنيه اختزال التاريخ بمراس سياسي لا يتغير.

ولتجنّب أي مظلمة، لم يكن المسيحيون كلهم غارقين في عقلية الكهوف، لأن أبرز أعلامهم كانت تسعى إلى الوطنية والقومية العربية، وليس كل السنّة لا يزالون عند نقطة الجاهلية. على ضفاف العقليتين، أنماط وأفكار متعددة، تمثلها جماعات متنوعة، أبرزها اليهود التي تجيد الجمع ما بين "الجاهلية" و"الكهوف" والمظلومية التاريخية والمقدسة، والسعي إلى التقدّم والتطور. ما بين هذا الثلاثي، صراعات تخوضها جماعات أقلوية أخرى، كحال الشيعة والعلويين والدروز والأكراد والإسماعيليين وغيرهم الكثير.

تضيع فكرة التطور والتقدم، فيغيب أيّ صراع فكري أو وطني، لحساب الصراع الطائفي أو العرقي، والذي يأخذ سمات تقسيمية. صراع يتجدد بين حقبة وأخرى، ويتفجر بعد هدنٍ زائفة. كحالة لبنان مثلاً، في العلاقة بين المسيحيين والسنّة، مقابل تهميش الشيعة لفترة طويلة. وبعد انفجارات متتالية، ضعف دور المسيحيين وتعزز دور السنة، مقابل تحقيق الشيعة لغلبتهم. وفي تطور الصراع، وصل التفاهم بين الشيعة والمسيحيين إلى استلحاق السنّة كمستضعفين، خرجوا مؤخراً من التركيبة كما هو الحال بالنسبة إلى وضع سعد الحريري.

يختصر لبنان وتحولاته، وضع المنطقة العربية كلها. أصبحت الجماعات ترتبط بأشخاص لا بمشاريع، وبجماعة طائفية أو جماعة بشرية تنسجم دينياً وفكرياً تحتل مكانة الدولة. وغالباً ما تتضارب هذه الحسابات مع فكرة العروبة، التي تغيب ويغيب معها دور العرب المؤثر سواء كان ذلك في لبنان أو سوريا أو العراق. فتتقدم أدوار قوى غير عربية كإيران والشيعة، نظرة بعض السنّة إلى تركيا، ورهان المسيحيين الدائم على الغرب. الصيغة اللبنانية التي نشأت في العام 1920، وتعززت بالاستقلال في العام 1943، لم تعد تماشي التطور التراجعي الذي انحدر إليه واقع الدول العربية.

في فكرة لبنانية راسخة تعززت في الخمسينيات وتحديداً مع حلف بغداد واستمرت إلى الثمانينيات، كان المسيحيون الأقوياء في تلك الفترة، يسعون إلى استمالة الشيعة إلى جانبهم، والشيعة على تماس جغرافي مع الأراضي الفلسطينية المحتلة التي احتلتها إسرائيل، نمت أفكار مسيحية في تلك الفترة، لوصل لبنان بإسرائيل والشيعة ضمناً. سقط حلف بغداد، وسقطت أحلاف وجبهات لبنانية في صراعات دموية. فشلت تلك الفكرة المسيحية، وأصيبت بهزيمة، وكان في الوقت ذاته يتنامى دور الشيعة ليصل إلى ما وصل إليه اليوم. السيطرة المباشرة على أهم المناطق الجغرافية اللبنانية، الحدود الجنوبية والتي تحوي النفط والغاز، والحدود الشرقية والشمالي مع سوريا. بقي المسيحيون في "كهوفهم" داخل جبل لبنان، وفقد السنّة دورهم المؤثر في المعادلة، والمستمد من الضعف والترهل العربيين.

تقدّم الشيعة، مع استمرار تقدّم "اليهود" أي إسرائيل. تراجع المسيحيون والسنّة. وعندما أراد المسيحيون العودة إلى قوتهم وتأثيرهم، سلكوا طريق "الطائفية والمذهبية" المبنية على مشروع شخصاني يقوم على تقديس شخص لا فكرة. بني التحالف مجدداً مع الشيعة. لكن الصيغة اللبنانية انفجرت في ثورة 17 تشرين، حيث خرج اللبنانيون بحثاً عن وطن، ودولة وطنية تطوي صفحة الانقسام والنزاع. فبدأت تلك القوى بثورة مضادة، تقوم على إعادة استنباط لعقلية متحجرة، تعيد إحياء مفاهيم التقسيم. عبر طرح "اللامركزية الموسعة" وهي المعنى التجميلي للتقسيم أو للفدرالية.

لا تأتي هذه الفكرة من عبث أو من فراغ. يستلهم طارحوها، النماذج التي تكرست في العراق المتشظي إلى ثلاث دويلات، كردية، شيعية وسنية، وسوريا المشتعلة تحت وطأة وصايات ومناطق نفوذ، سنية، كردية، وعلوية ودرزية. هناك في لبنان من يريد استنساخ هذا النموذج. بفتح نقاشات حول فدرالية طوائفية، يعمل بعض المسيحيين على تسويقها، لكنها سترتد عليهم بشكل أساسي ومباشر، وأول من سيستفيد منها مجدداً هم الشيعة.

لأن حزب الله صاحب القوة الأكبر والأكثر تنظيماً، يتحكم بالمفاصل الجغرافية الأساسية حتى في المناطق المسيحية. وتحديداً في قلب جبل لبنان في كسروان وجبيل، التي يتمتع فيها بطرقات إستراتيجية توفر له طريق الإمداد من سوريا إلى البقاع فجرود كسروان وجبيل وصولاً إلى البحر والخطّ الساحلي الذي يربط بيروت بالشمال. ولديه طريق أخرى من سوريا عبر البقاع الاوسط فالبقاع الغربي فالجنوب اللبناني ومنه إلى البحر. بمعنى أن الجغرافيا المسيحية مطوقة شيعياً.

طبعاً، يأخذ الصراع طابع حرب الوجود، والدفاع عن البقاء، لكن نتيجته ستكون حتماً تجويف الدور وتبديد البقاء برمزيته السياسية والمؤثرة في المعادلة. ويلبس الصراع لبوس معركة الدفاع عن الوجود بطابعها المقدس، لكنه قالب لتنافس من نوع آخر، ينحصر في المصالح الاقتصادية والمالية، ربطاً بخطوط التجارة والنفط. ولذلك، تحول الصراع السياسي إلى صراع بين مقاولين، يختبرها اللبنانيون جيداً، وسيكتشفها السوريون مستقبلاً في حروب إعادة الإعمار، بعد معارك ترسيم مناطق النفوذ.

 

والحال تختصره صفقة القرن، التي يتقدم فيها الإغراء المالي على المشروع الوطني، وليس بعيداً عنها كتكريس لغياب أصحاب العقائد في إسرائيل مثلاً، والإصرار على إنهاء حكم الجنرالات مقابل تكريس حكم المقاولين من خلال الدعم الدولي الذي يحظى به بنيامين نتنياهو وخصوصاً من قبل الروس والأميركيين، للفوز في الانتخابات المقبلة. يدفع أصحاب عقلية الكهوف والعقل الجاهلي، الثمن في معارك تأخذ صفة القداسة بالنسبة إلى الشيعة واليهود، والتي ستكون صفقة القرن النهائية فيما بينهما، بينما الآخرون سيكونون مستلحقين غير فاعلين وغير مؤثرين. وهذا كله على حساب انهيار مفهوم الدولة الوطنية، لقاعدة جديدة، إسرائيل ذات القومية اليهودية، آمنة ومستقرة، وإيران وشيعتها المتوسعة منضبطة.