لبنان ضحية الفساد المحلي وشركائه الدوليين

2019.11.02 | 21:33 دمشق

49b4bdf5-6cf3-444d-95b5-485b9db3ff3a.jpg
+A
حجم الخط
-A

كتب كارل ماركس (إذا تواترت الجريمة بشكل واسع، وغدت ظاهرة طبيعية، ينبغي التفكير بتغيير النظام، المنتج لهذه الجريمة، بدل تدعيم النظام القضائي، لأنه سيكون مشبعا بالفساد).

وكتب مسؤول عربي (كل شيء يمكن شراؤه في بلدنا. في هذا المناخ يصبح من يملك مثقال ذرة من السلطة، مسخرا لها لكسب المال والجاه. والمواطن الذي يطالب بمجرد احترام أبسط حقوقه، يصبح خاضعا لضريبة خفية، تؤدي رسميا للشخصيات الرسمية. إلى درجة فقدان المجتمع طابعه السياسي، ليتحول إلى سوق واسع للتجارة).

هذه الصورة الوقحة من الفساد، شائعة في معظم دول العالم، بنسب تتلاءم وحجم الحرية، والشفافية المتاحة. لكنها تتبدى بشكل صفيق ومشرعن، في دول مستباحة من حاكميها مثل سوريا والعراق والبلد المسكين لبنان، هذا البلد الذي بالكاد تكفي موارده لتلبية حاجاته، وهي بالحقيقة تكفي إن قلص المسؤولون فيه حجم استباحتهم ونهبهم له.

تصدمنا الأرقام التي توردها التقارير تباعاً، عن حجم الثروات التي تحصًّل عليها كل مسؤولٍ لبناني، ويصدمنا صمت المجتمع الدولي، إنها وبلا أدنى شك أموال ومقدرات تردم الفاقة وتقضي على العوز وتكفي لتنمية مستدامة، لو تم توظيفها لخدمة أصحابها المنهوبين.

فقد تداولت مواقع إخبارية محلية بعض الأرقام الفلكية لأرصدة بعض

يعد لبنان من بين الدول الأكثر مديونية في العالم، وهو يحتلّ المرتبة الثالثة عالمياً من حيث نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، بحسب صندوق النقد الدولي

المسؤولين اللبنانيين بمئات ملايين الدولارات التي تغذي مصارف أجنبية، بينما يرسف اللبنانيون في مستنقع التفقير والتجويع وتركهم عاجزين عن تنظيم القمامة في شوارعهم.

لقد أوردت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية بتاريخ (21 تشرين الأول)، أن "وزارة الخزانة الأمريكية قدرت الرقم بـ 800 مليار دولار"، معتبرة أنها "أكبر جريمة ارتكبت بحق الشعب اللبناني من قبل الغالبية العظمى ممن حكموا لبنان وفي مختلف المستويات بدءاً من مدير شعبة وظيفية وصولا إلى النواب والوزراء والرؤساء.

ويعد لبنان من بين الدول الأكثر مديونية في العالم، وهو يحتلّ المرتبة الثالثة عالمياً من حيث نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، بحسب صندوق النقد الدولي.

وتأخذ ظاهرة الفساد في توليد تداعياتها، التي تبدأ بالفقر، الذي يطال السواد الأعظم من الأفراد، ملغيا في سيرورته ما كان يسمى بالطبقة الوسطى، فتتلاشى معها كل الأشياء المحورية، والجميلة، التي تطبع روح البلد، من ثقافة وقيم وأخلاق، وسلام اجتماعي، وإحساس بالأمان. ويصبح الفساد ظاهرة اجتماعية، عادية لا تستدعي الاستغراب، أو الاعتراض.

كما يحظى هذا الفساد بمباركة السلطة وشراكتها ورعايتها. لينحصر الاهتمام العام واليومي برغيف الخبز، والسلامة الفردية. وتتفشى الجريمة، ويتطور الشعور المكبوت بالسخط، والتهميش، إلى حالة من العدوانية الشخصية، تطبع سلوكيات الأفراد بشكل عام، فتصبح هذه المجتمعات تربة نموذجية، للأفكار الانتقامية، والظلامية، والإرهابية، وقد لمسنا في العقدين الأخيرين، ظهورا حادا لمتلازمة الفساد والفقر والإرهاب.

وفي تفشي هذه المتلازمة التي تطبع عالمنا، المتهالك نحو الهاوية، خير دليلٍ على إفلاس الأنظمة الحديثة وفشلها في إرساء العدالة، بمفهومها الاجتماعي، والسياسي وإخفاقها في إنجاز وعود التنمية التي طالما حلمت الشعوب، بتحقيق الحد الأدنى منها. الأمر الذي أفسح الفرصة، لظهور نزعات عالية التطرف، كرد فعل انتقامي، يستهدف من كان علة في هذا الإفلاس.

بالطبع لا يكفي الفساد المحلي، لإمداد هذه الطبقة الفاسدة بالحياة، لا بد لذلك من تواطؤ دولي لمؤسسات كبرى، تدير وتستفيد من نهر الفساد الذي لا ينقطع، وتشكل باتحادها مع الشبكات المحلية، جهازاً أخطبوطياً يدير هذه المليارات، ويبقيها بمعزل عن المتابعة والمحاسبة، بل ويسن القوانين لحمايتها.

وكلنا يعلم كم هو أمر معقد، تحويل خمسين ألف دولار أميركي، من مغترب إلى أسرته في بلد عربي، وكم يخضع هذا لتدقيق وتفتيش وتأخير، فما بال هذه المليارات لا يعترضها أي معترض.

إن الفساد اليوم، عولمي الطابع، والقدرات، يتجاوز بتأثيراته الحدود، في سرعة تقترب من سرعة الضوء، وينبغي أن نتعامل معه، كما نتعامل مع الآفات الخطيرة، سريعة العدوى، كأنفلونزا الخنازير والسيدا.

إن ما نشهده اليوم، من عجز عالمي بالظاهر، لتطويق

عبر سنواتٍ طويلةٍ من تخليق الفساد، ورعايته، وإدارته واستثماره، تطور ليصبح حالةً سائدةً، تكتسي لبوس العرف العام، والقانون الساري

ظاهرة الفساد الدولي، الذي يرجح أن أطرافاً دولية ترعاه في الخفاء، ما هو إلا خير دليلٍ على انقلاب السحر على الساحر. ولم يعد من المجدي، فقط شن الحروب، وتجييش الأجهزة الاستخبارية العالمية.

فعبر سنواتٍ طويلةٍ من تخليق الفساد، ورعايته، وإدارته واستثماره، تطور ليصبح حالةً سائدةً، تكتسي لبوس العرف العام، والقانون الساري، الذي يتواطؤ على إدارته، الضحية والجلاد، خوفاً وطمعاً. لدرجة لم يعد يجدي معها، تغيير إدارة هنا، وإدارة هناك، أو سن قانون، أو استصدار قرار.

لقد تحرك جميع اللبنانيين، الذين اغتال الفساد الممنهج حياتهم، وحولها إلى حياة ينصَبون فيها بلا أمل، واستطاعوا بهذا الحراك العفوي، تهديم جدران العزل الطائفية والحزبية والمناطقية، لكن هل سيحظى حراكهم البطل هذا بمناصرة لأزمة، أم سيحولها تغول حزب الله والمال الإيراني، إلى حرب أهلية، سيكون فيها سلاح حزب الله هو الأقوى، وهل ستتدخل دول ترفع شعارات حقوق الإنسان ودعم الديمقراطية، لإنقاذ الجزيرة الوحيدة، التي بها بعض نبض الحرية في وطننا العربي البائس، أسئلة صعبة، والأمل جد ضعيف، بمن سبق لهم أن تركوا الشعب السوري، يذبح بدم بارد وحده، ويعملون متواطئين لإعادة إنتاج النظام القاتل والمجرم جهاراً.

إننا نعيش اليوم حسب تعبير توماس فريدمان، في عالم حار، ومسطح، ومزدحم.

لكن الأهم أنه غارق في الفساد.