لبنان: المعادلة بسيطة لكنها مكلفة

2019.11.05 | 16:13 دمشق

2019-11-05t120327z_1298060793_rc178743ba60_rtrmadp_3_lebanon-protests.jpg
+A
حجم الخط
-A

"هي معادلة بسيطة، على الطبقة الحاكمة اللبنانية فهمها، معادلة من الدرجة الأولى، بل عملية حسابية بسيطة، لا تعدو ناتج الجمع بين رقمين: 8 آذار+ 14 آذار= 22 أغسطس/آب" هذا ما كتبته صاحبة هذه السطور منذ أربع سنوات، لكن ناتج المعادلة اليوم صار أوسع وأشمل وأكثر تكثيفاً وبرهاناً، إنه 17 تشرين الأول 2019، اليوم الذي نزل فيه الشعب اللبناني إلى الساحات والشوارع في لحظة ثورية فاقت كل التوقعات، وأضاف إلى عناوينه، التي برع فيها، عنوانًا آخر يلخص مطالبه بجملة بليغة الدلالة "كلّن يعني كلّن"، بعدما لم تكترث الطبقة الحاكمة "كلّها" المتجذرة وفق محاصّات لا تكترث بمصالح الشعب وإنما بمصالحها فقط بالعنوان المهين الذي أطلقه الشعب حينها شعارًا لحراكه يوم ضاقت شوارع لبنان بقمامتها "طلعت ريحتكن".

إنه الشعب الذي نفد صبره، والشعوب حكيمةٌ بصبرها أحياناً، لكن حكمتها بإدراكها ذاتها أكبر وأدلّ. حكمة اختمرت، خلال الزمن، بينما المستبد الجالس على عرش الفساد فاحت رائحة فساده ولم تزكم أنفه بالرغم من كل شيء، وكأن المثل القائل بأن الشخص يتوه في دائرة عطره فلا يعود يشمها ينطبق أيضًا على الروائح الكريهة، فما أبشع النظام الذي يعتاد عفنه ورائحة فساده. الشعب عندما يدرك نفسه ينتفض ويمسك الزمام، زمام أفكاره ولغته أولاً، بعد أن كانت سلطة القرار صاحبة الأفكار تصنع مؤسساتها المنتجة لأفكارها. وعلى الشعب أن يتلقى ويؤمن ويمارس ساكتاً خانعاً مستسلماً. لكن الشعب هو الأقوى، هو مالك الحياة والدليل كم بذل ويبذل، حالياً وعلى مرّ التاريخ من حياته، من أجل استعادة حقوقه المستلبة، وإمساكه قراره وإدارة حياته، الشعب الذي ينفلت من أسر الخطاب الفوقي، الخطاب النخبوي، سياسياً كان أم ثقافياً، يدوّن خطابه ولغته، ويمسك زمام المبادرة في تغيير الواقع. الاستبداد لا يملك حياة كي يدفع منها، هو يستثمر بحياة غيره، بحياة المحكومين.

لقد دفع اللبنانيون مسبقًا فاتورة الدم، ولم يستردوا مقابلها حقهم في حياة كريمة، بل كانت البلاد تنزلق خلال العقود الماضية نحو حياة استنقاع أوصلت الشعب إلى ما هو عليه اليوم، شعب لخصت تلك الصبية المقهورة "جنى جمال" ببلاغة صاغها

ما يحصل في لبنان حاليًا يظهر البون الشاسع بين السلطة والشعب، وهذا ليس غريبًا عن أنظمة تستمرئ العروش حتى ولو على حساب حقوق شعوبها

وجعها المتغلغل حتى الشغاف كل مأساته ومعاناته من طبقة سياسية تغولت في معيشة المواطنين وسطت على مقدراتهم في الماضي ولم تكتفِ، بل عينها على المستقبل أيضًا، أدخلت البلاد في أزمة اقتصادية مريعة يطل شبح الجوع والفقر والمرض والتشرد من على عتبات الحياة معها ويتربص بالشعب، بغالبية الشعب ما عدا أولئك المستفيدين من النظام المطبق على البلاد.

ما يحصل في لبنان حاليًا يظهر البون الشاسع بين السلطة والشعب، وهذا ليس غريبًا عن أنظمة تستمرئ العروش حتى ولو على حساب حقوق شعوبها، أنظمة صادرت كل شيء ولم تفكر، من باب الحيلة حتى، أن تترك للشعب حصة من بلاده. لقد هزت انتفاضة الشعب أركان الحكم في لبنان ودفعته إلى التخبط أمام هذا المد الجماهيري والزخم والحناجر التي تردد "كلكن يعني كلكن"، ولم تكن الطبقة الحاكمة تتوقع أن صرخة "طلعت ريحتكم" كانت جادة ومنذرة منذ أربع سنوات أو أكثر، وأن المفاجأة التي كانت تنتظرها هي هذا الإجماع لدى شعب تعرض على مدى عقود لكل أشكال الاستلاب، وأفظعها استلاب إرادته وشق صفوفه وتقسيمه إلى جماعات وزعامات وولاءات وحصص، إجماع على تحطيم كل الموروث الذي رسخه النظام الطائفي، إجماع على لبنانيته فقط، وهذه طرابلس المدينة العريقة ذات التاريخ الحافل التي حولوها إلى مدينة مترهلة فقيرة شبابها بلا طموح ولا مستقبل ولا أمل، مدينة ألبست بالإكراه لباس السلفية ، تنتفض بكل أطيافها

إن الضمير يملي على المتابع والمطلع على الوضع اللبناني منذ عقود خلت إلى الآن، أن يبارك للشعب ثورته ويقرها

وأطياف أقضيتها ومناطقها لتقدم صورة الإجماع اللبناني الحقيقي، الشعب الذي يحب الحياة ويريدها، إنما بطريقته وليست بطريقة زعماء الطوائف، شعب يريد العمل والإنتاج والعيش بعرق جبين أبنائه وليس بالتبرعات أو شراء الولاءات أو حماية الزعماء.

إن الضمير يملي على المتابع والمطلع على الوضع اللبناني منذ عقود خلت إلى الآن، أن يبارك للشعب ثورته ويقرها، ومن المهين لكرامة هذا الشعب نكران الأسباب الموجبة لانتفاضته العفوية بحجة المؤامرة. إن المؤامرة عمرها من عمر الحروب بين الجماعات البشرية واقتتالها على الموارد منذ أن انتظمت في مجموعات، والمؤامرة تتربص بمنطقتنا منذ القدم وليست وليدة اللحظة، وهي حقيقة موجودة وقريبة أكثر مما نتصور، لكن هل يمكن بحجة المؤامرة تبرئة الأنظمة التي سهلت لها التسلل من الأبواب المواربة؟

وإذا كانت كل أركان النظام الحالي في لبنان تقر للشعب بحقوقه، ومنها من سبق الجميع وبدأ بركوب موجة الانتفاضة الشعبية، فعلى من يثور الشعب؟

انتفاضة الشعب اللبناني مثلها مثل سابقاتها لدى شعوب المنطقة، منذ بدايتها أخذ الإعلام والميديا مساحة كبيرة ومؤثرة إلى حد ما في التأثير في حراك الشعوب، وهذا أمر بديهي في عصرنا الحالي الذي أصبحت فيه الميديا، وخاصة وسائط التواصل الاجتماعي، تحتل مساحة عريضة في حياة الناس وتفسح مجالاً لمساهمات متنوعة من دون ضابط أو تقييد، فلعبت الأجندات الصغرى والكبرى، المحلية والإقليمية والدولية، أدوارًا فاقت في تأثيرها الأدوار الأخرى وأدت إلى التجييش والشحن وإثارة الفتنة وحرف الانتفاضات عن أهدافها وتبديد القوى الفاعلة والمؤثرة في احتجاجات الناس. يُخشى على انتفاضة الشعب اللبناني من أدوار مماثلة، بالأخص أن الجهات المتربصة عديدة ولا يمكن عزل لبنان عن المنطقة ورسم مسارات تخصه وحده، لذلك لا بد للشعب اللبناني أن يبقى متيقظًا وحارسًا لانتفاضته وراعيًا لأهدافها وعارفًا طريقه بوضوح، فمن الطبيعي ألاّ يتوقع المرء من الأنظمة الحاكمة أن تستسلم لإرادة الشعب بسهولة، خاصة تلك التي أزمنت في الحكم وتجذرت فيه أو جذّرت أركانها القائمة على الفساد والمحسوبيات والمحاصّة، واسترخت على سدة الحكم مترهلة ظنًا منها أن الشعوب دخلت في غيبوبة، وأنها مستكينة لوضعها حدّ اللامبالاة. إنها معادلة بسيطة، تسمى في علوم الرياضيات معادلة من الدرجة الأولى، لكنها مكلفة وطريق الوصول إلى ناتجها المعلوم محفوفة بالمخاطر والدماء، إنها إرادة الشعوب المستلبة في صحوتها الحتمية.