لبنان: الشخصانية المدمرة من الخمينية إلى الأسدية فالعونية

2019.11.27 | 12:50 دمشق

alkhmyny.jpg
+A
حجم الخط
-A

تقتل الأوهام أصحابها، ويحّل بالأقوام الهوان، عندما تستفحل الأوهام بتخيلاتها تُدمَّر الأوطان. وهذه الأوهام لا تتنامى إلا في حالات الفراغ وغياب أي مقومات فكرية لدى الجماعات السياسية، فلا تجد ما ينقذها سوى الشخصانية وتأليهها. مثّلت إيران ريادة هذا النموذج بربط السياسة بأيديولوجيا دينية ومذهبية، ترتبط كلّها بشخص القائد والولي الفقيه الذي لا ينكسر وإن انكسر شعبه. تقوم هذه الشخصانيات على وعود غير قابلة للتحقيق. وتتركز الزعامة الشخصية للقائد الملهم بفعل ديماغوجيته وخطابيته التي تلهب حماسة الجمهور، ولا تناقش أي فكرة، أو تبحث في أي تقدّم اجتماعي واقتصادي. في هذه المعادلات، تسقط الخدمات، والمؤسسات، وتعلوها رمزية القائد بشخصيته، إذ يصوّره أنصاره  ممثلاً لله على الأرض.

هي المعادلة التي ترسَّخت بعد انتصار الثورة الإسلامية في ايران عام ١٩٧٩، ومثّلت نموذجاً أصابت عدواه الكثير من الرجالات والمناطق. فطغت الشخصانية ما بعد الثورة الإسلامية، على الشخصانيات العسكرية التي طبعت مرحلة الانقلابات العسكرية التي تحكّمت بمفاصل الدول العربية وقضت على أي تقدّم فيها. تغلّبت شخصانية الخميني على شخصانية عبد الناصر. وتمدد النموذج نحو دول الهلال، فحافظ الأسد عرف كيف يمازج بين الشخصانية والواقعية، لكنه أيضاً اعتمد على تدمير أنداده واغتيالهم سياسياً ومعنوياً وجسدياً لجعل نفسه قائداً أوحدَ. بشّار الأسد هو المثال الأغبى في ذلك، فكان والده يعتبر أن قوة سوريا من قوته، بينما بشّار وانحدار جماعته وجمهوره اختار شعار "الأسد أو نحرق البلد". كان حافظ الأسد يقدّم نفسه من صفوة القوم المتماثلين مع توجيهات الله، بينما نجله ذهب إلى تغييب الحضرة الإلهية في حضرته، فأصبحت معادلته "لا إله إلا بشّار."

ثمة في لبنان من يتعاطى مع المرحلة، مستلهماً من بشار الأسد، ينظر إليه كقائد تاريخي، يحتذي به وبمسيرته التي لا تقود إلا إلى نموذج قريب أو مصاب بعدوى كوريا الشمالية وكيم جونغ أون. ومع اندلاع الانتفاضة اللبنانية والمطالبة بإسقاط العهد وتغيير النظام، خرج من مناصري عون من يعلن استلهام تجربة بشار الأسد في سوريا للتعامل مع هذه التظاهرات، وقال بالحرف الواحد: "سنفعل بهم مثلما تعاطينا مع الثورة السورية"، وهذا إقرار ضمني من أبناء هذا المحور حول الارتباط الوثيق بين هذه الشخصانيات التدميرية، لحساب المصالح الشخصية أو المذهبية.

العونية لا تبدو بعيدة عن الأسدية، لا بل وكأنها تتوالد من جديد من رحمها، خصوصاً العونية المتجسدة منذ ما بعد العام 2005

في صراع اللامنطق، وانقلاب المفاهيم بما يخالف كل ما هو منطقي، يمثّل بشار الأسد استلهاماً للكثير من الشخصيات السياسية والديكتاتورية الطامحة لسدّ فراغات تجدها في أنفسها، ولكنها تعيش حالة نكران فتتهم المجتمعات فيها. هو المنطق الأسدي، الذي ينزّه الذات ويخوّن الآخرين، ويضع نفسه في مصافِّ المخلّصين. العونية لا تبدو بعيدة عن الأسدية، لا بل وكأنها تتوالد من جديد من رحمها، خصوصاً العونية المتجسدة منذ ما بعد العام 2005، التي لا تتوانى عن التحالف مع "الشيطان" لصالح البقاء والدفاع عن المكتسبات. ولذلك فور وصوله إلى رئاسة الجمهورية في لبنان، عمل ميشال عون على تعيين أركان الحقبة السورية في عداد كبار المستشارين والمقررين السياسيين في عهده، ليس لأي سبب إلا لاستلاهم الذات الإلهية التي طبعها بشّار لنفسه في عقول مريديه وخصومه حتى، وما أثبته موالوه من براعة في ذلك، بتدمير كل ما له علاقة بالمنطق أو العقل. حماسة عون إلى هذا النموذج دفعته إلى الركون في هذه المنزلة، وتقريب كل رموز الحقبة السورية، لعلّهم يجيدون تأليهه.

وفق هذه المعادلة، يصبح الأسد هو النموذج المحتذى، الذي سقط أمام شعبه وبصرخاتهم، لكنّه بقي بقوة الآخرين، وعلى ركام بلاده ومدنها وأحيائها وأشلاء ضحاياها. بقاء بين الأموات، فيما يجد الأسديون ومماثلوهم فرصة لادّعاء الانتصار وسحق الأعداء، بينما الحقيقة تكون في مكان آخر وهي أن بقاءهم مستمرّ بسبب سياسة هؤلاء الأعداء. في لبنان النموذج الأسدي آخذ بالتطور أكثر، فعهد ميشال عون سقط، لكن مريديه يخرجون معلنين انتصارهم على المؤامرة، وما يوجبه ذلك من حالات انفصال عن الواقع، وادعاء الانتصارات فوق الخراب والانهيار. وهذه النماذج تمثّل ما هو أسوأ وأردأ من الغوبلزية، في محاولات مستمرة لتصوير الانتصار الساحق على العالم.

وفي ظل تعميم هذا النموذج، لم يعد الخطر يقتصر على دولة واحدة أو شعب واحد، لأن أصحابه يتحدثون باسم المحور، هذه الحالة التأليهية للزعيم والقائد، لم تعد مرتبطة بشخصية واحدة اسمها الولي الفقيه في إيران، بل على الرغم من إظهارها لاتحادها، يظهر هناك تضعضعٌ واضح من خلال طمع التابعين الآخرين لتأليه أنفسهم، وهذا وحده كفيل بإسقاط هذه الأساطير ولو بعد حين، تماماً كما سقطت أساطير من قبلهم لتعود الكلمة إلى الناس وما يريدونه وما يهتمون به، بعيداً عن رسم حدود الأوهام والأحلام بدماء المواطنين وموارد بلادهم. وبعيداً أيضاً عن إعادة فرض تغييرات ديمغرافية وجغرافية تتلاءم مع هذا الجنون، الذي لا يرى الخير إلا في نفسه ومنفعته، ويُوسَمُ من يعارضه بكل الشرور والخيانات. ما يجري في سوريا، والعراق، ولبنان وإيران من انتفاضات شبابية، غايتها البسيطة إلى جانب المطالب المعيشية، هي القول إنهم ليسوا أبناء الجنون، ولا بد له أن ينتهي.