لبنان البلد الذي يعشق الكارثة

2019.04.05 | 00:04 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يستعد العالم للكشف عن أول صورة للثقب الأسود القائم في قلب مجرتنا بعد نجاح التلسكوب المعروف باسمEvent Horizon telescope الذي يرصد المجرة في الحصول على أول صورة للثقب الأسود فائق الكتلة.

ويخيل لي أن علاقتنا نحن أبناء المنطقة المنكوبة المسماة بالشرق الأوسط بهذا الاكتشاف تنطوي على جملة من الأبعاد الرمزية فالمصطلحات المرتبطة بهذه الظاهرة تتضمن بعدا مرتبطا بفكرة الكارثة، وهو مصطلح "أفق الحدث" الذي يصف حدود الثقب الأسود والذي إذا عبره أي جرم فإنه يكون كمن وقع في كمين محكم لا يستطيع الفكاك منه إلى الأبد.

يندر أن تجد بلدا يسعى إلى الإقامة في "أفق الحدث" مثل لبنان فعلى الرغم من أن معالمه جلية وواضحة ولكن القيمين على الشأن العام فيه، يصرون على دفع البلد بكل ما فيها إلى مثل هذه الإقامة الجبرية داخله والتي لا يرجو منها فكاكا.

لا يمكن فهم ذلك الركض اللاهث لتحويل البلد إلى مستعمرة روسية إيرانية سوى أنه دفع متعمد في اتجاه "أفق حدث" يلوح ويرسم معالم نهايات لا يمكن الجدل كثيرا في أنها قد باتت وشيكة.

يعني ذلك بمقياس الحسابات والمصالح المباشرة أن لبنان سيدفع الثمن السياسي والاقتصادي لهذه الزيارة من خلال رفع منسوب الخلاف مع واشنطن

يستقبل لبنان وزير الخارجية الفنزويلي في لحظة اشتباك أميركية روسية ويتحدث هذا الوزير في لبنان بشكل لا يمكن النظر إليه سوى بعين السخرية عن تمكين العلاقات مع لبنان ومد أصر التعاون بين البلدين في حين أن المرء لا يحتاج لأن يكون متبحرا في السياسة والاقتصاد ليعلم أن فنزويلا هي على غرار إيران قد غلبت "الثورة" على الدولة والأمن، والسياسة، والاقتصاد، وباتت ثروتها النفطية في خدمة تمكين حالة بوليسية .

يعني ذلك بمقياس الحسابات والمصالح المباشرة أن لبنان سيدفع الثمن السياسي والاقتصادي لهذه الزيارة من خلال رفع منسوب الخلاف مع واشنطن من دون أن ينتفع في المقابل بأي شيء، لا بل كان من الواضح أن الزيارة التي لم يعلن عنها سوى قبل 48 ساعة من حدوثها  قد أربكت جميع أركان الحكم فكان أن امتنع رئيس الحكومة سعد الحريري عن استقبال الزائر الملتبس، ولكن رئيس الجمهورية استقبله مانحاً الزيارة بعدا شرعيا ورسميا.

من ناحية أخرى فإن كل المشاكل التي يعاني منها البلد والتي تشكل عنوانا للخطاب السياسي عند قادته من قبيل قضية اللاجئين السوريين، الذي بات الحديث عن مدى تأثيرها على الأمن والاقتصاد والديموغرافيا في لبنان من يوميات السياسة اللبنانية، هي قضايا لا يمتلك الطرف الذي يتهافت قادة البلد على إعلان الولاء له أي مفاتيح لحلولها، لا بل تظهر كل السياقات أنه السبب الأساسي في تعقيدها وسد سبل الحلول في وجهها.

ليس أدل على ذلك من أن النظام السوري يعمل على تعقيد قضية عودة اللاجئين بكل السبل، ويمكننا تاليا أن نستنتج في ظل توزيع خريطة النفوذ في سوريا أن هذا التعقيد يمثل نقطة التقاء لحلفاء النظام الروس والإيرانيين. هل يتوقع أحد أن تضحي إيران باستثماراتها الضخمة في تغيير البنية المذهبية والسكانية في سوريا، واحتلالها للمناطق التي أفرغتها من سكانها واستبدلتهم بمكونات تابعة لها من أجل إراحة اللبنانيين؟

الرسالة الكبرى وراء هذا التدخل تعنى بتفكيك العناوين التي تستند عليها جبهة الممانعة والتصدي من لبنان إلى إيران، وبشكل خاص عنوان العداء لإسرائيل

كذلك فإن روسيا التي لم يجد الرئيس اللبناني في رحلته التي وصفت بالفاشلة إليها سوى أن يعمد إلى طرح خطاب حماية الأقليات على رئيسها معتقداً أن مشروع روسيا في المنطقة يقوم على ذلك ولكنها في الواقع لا تهتم سوى بتمكين نفوذها.

تستعمل روسيا علاقتها ببعض الأقليات في هذا الصدد، كما هو حال علاقتها الممتازة مع إسرائيل، ولكن مشروعها لا يلتقي مع مشروع الأقلية الكردية مثلا، كما أن تدخلها في المنطقة قد حول الوجود المسيحي من وجود تاريخي وأساسي إلى وجود يمكن تشبيهه بالحضور المتحفي، أي نوع من الحضور التزييني الخالي من الفاعلية السياسية.

ومؤخرا أدت روسيا دورا لافتا في عملية استعادة إسرائيل لرفات جندي إسرائيلي  قضى في لبنان عام 1982 في العملية التي أطلق عليها اسم عملية السلطان يعقوب، والتي كانت قد شاركت فيها قوات من الجيش السوري بقيادة ضباط تمردوا على أوامر القيادة بالانسحاب وقاتلوا حتى الموت.

الرسالة الكبرى وراء هذا التدخل تعنى بتفكيك العناوين التي تستند عليها جبهة الممانعة والتصدي من لبنان إلى إيران، وبشكل خاص عنوان العداء لإسرائيل،  تمهيداً للشروع في إجراء مفاوضات سلام معها، تؤمن تسيير خريطة المصالح الروسية التي لا يمكن أن تمر في النهاية سوى من خلال مسار أميركي.

دفع الخليجيون حصتهم من الاتفاقات الكبرى وتم تمرير الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وها هو النظام السوري يدفع حصته من الاتفاق بما يخص الجولان، ولم يبق سوى إيران التي يمطرها الروس والأميركيون بالرسائل الملغومة في أكثر من اتجاه.

يحدث كل ذلك في الوقت الذي يصر فيه لبنان على البقاء تحت كنف ممانعة لم تعد تصدق نفسها. إنه الركض المحموم نحو "أفق الحدث " حيث لا شيء يحدث سوى الخراب العظيم.