لا يريدون لهذا الكاس أن ينتهي

2021.01.20 | 00:10 دمشق

424a4fe3-7c6a-4bf1-8351-653614c91afe.jpg
+A
حجم الخط
-A

في كل سنة خلال هذه الفترة من السنة تعيد لي ذاكرة الفيس بوك ما كتبته في السنوات السابقة عن وضع اللاجئين في المخيمات لا سيما في لبنان وتركيا، أو تلك التي على الحدود مع تركيا، في كل سنة يبدو الأمر كما هو: مخيمات غارقة بمياه الأمطار، ومخيمات كشفتها وأزالتها الرياح القوية، مخيمات لم تعد ترى تحت كثافة الثلج، وفي كل عام هناك من يصور هذه المشاهد من جديد، ويصور اللاجئين المشردين المتروكين للطبيعة الغاضبة تفعل بهم ما تشاء، يصور شقاءهم وبؤسهم وذلهم وشكواهم وألمهم وحرقتهم ويأسهم وربما صبرهم على بلواهم، ودعاءهم المستمر لله أن يكشف عنهم هذه البلوى وهذا الاختبار، غير أنه لا أحد يستجيب، حتى السماء نفسها، كلما رفعوا أيديهم ووجوههم المتعبة نحوها، كلما زادت في غضبها عليهم.

"ما الذي فعلناه حتى نستحق كل هذا؟" تسأل لاجئة تجر نفسها جرا من فرط الشقاء، "أنا لم أسرق في حياتي ولم أسبب الأذى لأحد ولم آكل مال يتيم ولم أقتل نملة، لماذا يا ربي تفعل بي ما تفعله؟ لماذا هذا الابتلاء يا رب العالمين"؟! وطبعا لا تجد اللاجئة من يخبرها لماذا يحصل معها ما يحصل، ولماذا تعاني هي ومئات الآلاف من السوريين من هذا الذل والقهر السنوي، لا أحد يخبرها لماذا ترك اللاجئون في هذا العراء، مكشوفي الظهر لخيانة الطبيعة وخيانة العالم وخيانة من تسببوا لهم بكل هذا، لا أحد يخبرها لماذا يعيش من يتصدرون الشاشات وهم يرتدون أرقى أنواع الملابس ووجوههم تضج بالصحة والعافية ( الله يتمها عليهم)، ويتحدثون باسمها وباسم مئات الآلاف مثلها عن الاستمرار في ( ثورة الكرامة والحرية) حتى آخر نفس، لا أحد يخبرها لماذا عليها هي ومئات الآلاف مثلها التضحية من أجل (ثورة الحرية والكرامة) بينما كل ما تطلبه هي (السترة) من هذا القهر والذل اليومي الذي لا يريد أن ينتهي أبدا.

يحدث سنويا أن تنال صورة من هذه الصور جائزة عالمية ما في التصوير، ويحصل مصورها على مبلغ مالي محترم يوضع في رصيده في بنك ما من بنوك العالم

الله لا يحب الفقراء، لكن عدسات المصورين تحبهم على ما يبدو، تحب أطفالهم وهم يلعبون في الطين والوحل والثلج ويرتجفون من البرد والبلل، تحب وجوههم الشاحبة، التي أفقدها الجوع لونها الطبيعي، تحب عيونهم الحزينة، أياديهم الجافة وأقدامهم العارية، وربما لفرط ما تحب الكاميرا هذه المشاهد، يحدث سنويا أن تنال صورة من هذه الصور جائزة عالمية ما في التصوير، ويحصل مصورها على مبلغ مالي محترم يوضع في رصيده في بنك ما من بنوك العالم، وربما يبيع الصورة نفسها لأحباب الياقات الأنيقة من السوريين الذين يتصدرون الشاشات ويتحدثون عن الاستمرار في (ثورة الحرية والكرامة) حتى آخر نفس، مطالبين المجتمع الدولي بتحمل مسؤوليته تجاه اللاجئين ومآسيهم، (شكرا لكم والله، ولكن أين مسؤوليتكم أنتم؟)!
نعم، هذا السؤال حق وواجب في الوقت نفسه: أين مسؤولية السوريين الذين تصدروا هيئات المعارضة السياسية؟ أين الائتلاف والمنصات والهيئات والتحالفات، أين حكومة الإنقاذ؟ ما هو العمل الحقيقي لحكومة الإنقاذ؟ تنقذ السوريين من ماذا بالتحديد، إن كانت عاجزة عن إنقاذهم وحمايتهم من الموت من البرد هل ستستطيع حكومة كهذه إنقاذ السوريين من بالتحديد؟ّ! يحق لأي سوري أن يسأل هذا السؤال وهو يدرك أن أي حكومة كهذه لتتشكل فهي لديها رصيد مالي ضخم، أين هو، ومن يتصرف به، وتحت أي بند يتم التصرف به؟! هذه الأسئلة ليست فقط مشروعة وإنما هي حق من حقوق السوريين المتروكين في هذا العراء القاتل!

وبالمناسبة أيضا، أين منظمات المجتمع المدني التي يصرف عليها المجتمع الدولي أموالا طائلة، ويتقاضى موظفوها رواتب عالية؟ ماذا فعلت لهؤلاء السوريين؟ سوريو المخيمات الذين وحدهم من دفع الأثمان الباهظة لثورة لم يفشلها النظام وحلفاؤه، فهؤلاء من الطبيعي أن يقوموا بوأد ثورة تقوم ضدهم، بل أفشلها من تصدروا لقيادتها، أفشلتها الأنتلجنسيا المعارضة التاريخية في سوريا، أفشلها تضارب المشاريع بين أركان المعارضة ومموليهم، أفشلها الفساد الذي أورثه النظام السوري للسوريين جميعا، أفشلتها عجرفة اليسار السوري وعمالة اليمين السوري، أفشلها الاتكال على المجتمع الدولي وطلب التدخل الخارجي، أفشلها الانقسام بين معارضة داخلية وأخرى خارجية، أفشلتها أجندات الممولين وضعيفي النفوس من السوريين الذين قبلوا أن يشتروا وأن يبيعوا قيم ثورة كان يمكن لها أن تغير شكل المنطقة كلها نحو التطور والتقدم، أفشلها التخلف، لنعترف بذلك، والجهل أيضا والانجرار وراء مشاريع دينية ومذهبية قاتلة تحت اسم نصرة الإسلام في سوريا، أفشلناها جميعا، حين تركناها ورحلنا بحثا عن الأمان، أو حين بقينا ولم نرحل ولم نفعل شيئا عدا توجيه الشتائم والاتهامات لمن رحل.

من قال إن الدم لا يصبح ماء؟! تثبت مخيمات اللجوء سنويا عكس هذه المقولة، فالدم السوري الذي دفع ثمنا لهذه الثورة يختلط مع مياه الأمطار التي تغرق السوريين ومخيماتهم

هل سنحكي مجددا عن مسؤولية النظام عن كل ما جرى؟ بات هذا من النوافل، ولا يوجد من برأسه ذرة عقل يمكنه أن يحكي ولو عن إيجابية واحدة عن هذا النظام، إذ لم يوجد في تاريخ البشرية نظام أكثر إجراما وفجرا وفسادا وعمالة منه، ولكن للأسف لم يقدم معارضوه نموذجا أفضل، لم يكونوا سوى صورة مشوهة عنه، خلال ما يقارب السنوات العشر كان يبدو هناك تنافسا في الرداءة بين النظام والمعارضة السورية، دفع ثمنه السوريون الذين توسموا خيرا في ثورة ربما كانت ستغير في حياتهم ومستقبل أبنائهم، أو سوريون اعتقدوا أن هذا النظام وطني وأنهم بتأييده فهم يحمون الوطن،( لم تكن سوريا وطنا بكل حال)، هل كان السوريون جميعا مخدوعين؟ أي نظام شمولي حاكم هو خادع بالضرورة، أما  الثورة فليست بأي حال خداعة ولا خادعة، الثورة هي أفضل ما يحدث في تاريخ البشر وحياتهم، بيد أن من تصدر واجهة الثورة السورية السياسية والعسكرية هم المخادعون والرديئون والخونة، وإن تحققت العدالة ذات يوم فيجب أن تتم محاكمتهم بتهمة خيانة الثورة والشعب السوري، (لم يعد هناك أمل بأبسط مبادئ العدالة).

من قال إن الدم لا يصبح ماء؟! تثبت مخيمات اللجوء سنويا عكس هذه المقولة، فالدم السوري الذي دفع ثمنا لهذه الثورة يختلط مع مياه الأمطار التي تغرق السوريين ومخيماتهم، وكأن السماء أيضا تريد أن ينسى الجميع هذا الدم، كأنها تريد للجميع أن يتمنى لو أن الثورة لم تحصل ولم يصب السوريون بما أصيبوا به من ابتلاء، (ذات يوم وجه مثقفون سوريون معارضون سهام الكراهية والشتائم لشاعر سوري كتب مقالا عن الثورة تحت عنوان: ليتها لم تكن)! هل يعتقد هؤلاء أن من يموتون من البرد والجوع والعار في مخيمات الذل لا يوافقون الشاعر السوري على مقولته تلك؟!

اقرؤوا ذات مرة الفيس بوك خاصتكم في السنوات التسع السابقة خلال هذه الأيام وسوف تجدون الجواب: سوريو المخيمات متروكون في العراء، وحدهم متروكون في العراء، كما تركت سوريا (الوطن/ الفكرة) في العراء، ومازال كثيرون من المتدفئين والمتخمين والآمنين لا يريدون لكأس المذلة الذي يشربه لاجئو المخيمات يوميا، وتشربه سوريا والسوريين المنتمين لها، أن ينتهي.