لا مكتبات في دمشق

2021.09.23 | 06:09 دمشق

nwbl-1-526x330.jpg
+A
حجم الخط
-A

لعلنا لم نرَ عتمة أشد من هذه التي تحيط بنا، في هذا القرن المطل على الحروب والأوبئة، ودخول الكوكب في عزلة مريبة،  وتوظيف كل الوسائل لتدمير الروح، العقل والجسد، تدمير المدن بشكل هذياني ألم يقل مالارميه: "إن العالم وجد كي يوضع في كتاب جميل"، ولكن ماذا لو خلت دمشق من المكتبات، هل ستصبح خارج التغطية خارج العالم منقطعة عن نور الكتب، هل ستسير نحو ظلمة أخرى؟

أغلقت مؤخرا مكتبة "نوبل"، وإغلاق المكتبات يعتبر واحدا من أهم أعراض الانهيار الحضاري، في مدينة عرفت المكتبات منذ العصر الأموي، وقبله بأزمنة وعقود، فارتفع صوت روائيين وشعراء وكتاب وقرّاء، وغيورين، وهم يرثون دمشق، وغياب المكتبات فيها واحدة إثر أخرى، المكتبات التي تمنح المكان رئة وقلبا، فتمسي هوية كونية تقربنا من الإنسانية.

لم تعد دمشق بحاجة إلى مكتبات، لم تعد دمشق بحاجة إلى شعراء وكتاب وفنانيين! لم تعد دمشق بحاجة إلى أي شيء، سوى هذا الليل فكل شيء ينسلخ من الطمأنينة، وكأن الفكر الداعشي يغطي المشهد، الحدود فتحت أمام الظلاميين، والميليشيات الطائفية، والغزاة، وحدها الزهور تثرثر حول الموت، ثمة إشارات لعالم من الهذيان، فغياب المكتبات والمسارح ودور السينما، .يُضاف إلى المقابر والخراب...

فما هي علاقة المدن بالمكتبات، والمخطـــوطـــات والموسوعات، وكتب القانون، والفكر والفلسفات، والأساطير، وألف ليلة وليلة،  المكتبات التي ارتبطت بدراستنا وشغفنا وأسئلتنا حول الكون والوجود ومفاهيم الحرية وقيم العدالة، لايمكن ونحن نتجول في شارع ميسلون بجانب فندق الشام إلى أن نتجه للرصيف المقابل ونقف أمام زجاج المكتبة نبحث في العناوين عن ماركيز وبورخيس، وحسين مروة، وزكريا تامر، وطيب تيزيني، وصادق جلال العظم، ووسارتر، ننظر إلى صاحبها هذا السوري العميق، السرياني، بأناقته، وحضوره المشع، بابتسامته ونظرته الثاقبة، والذي يعرف طلاب الجامعة، والشعراء، والكتاب، والإعلاميين، لهذا ليس غريبا أن تكون المكتبة كما وصفها بورخيس مجازاً للكون.

هذه المكتبة ارتبطت بأهم الكتب التي فتحت وعينا ودربتنا على قراءة الفلسفة والفكر والرواية فشكّلت محطةً من أجمل محطات حياتنا، كلّ مكتبة تحمل تاريخا وراءها، ترتبط بالمدن بالشوارع بمن يقرأ، بشعرية اللحظة والاكتشاف والسفر والصداقات، ورائحة المطر بالذكريات، ترتبط أيضا بمكتبات بيوتنا التي جمعناها من هنا وهناك، لقد تغير كل شيء! من يمنح المدينة الحياة!؟

في زمن الأحلام الكبرى، ازدهرت كثير من المكتبات، والتي ارتبط أصحابها بفكر تنويري، أو وسطي، وباتت جزءا حقيقيا من ذاكرة المدينة وكل من عاش فيها..

لم تعد دمشق بحاجة إلى مكتبات، لم تعد دمشق بحاجة إلى شعراء وكتاب وفنانيين! لم تعد دمشق بحاجة إلى أي شيء، سوى هذا الليل فكل شيء ينسلخ من الطمأنينة،

مكتبة ميسلون تحوّلت إلى مركز صرافة، بعد أربعة عقود من نشر الثقافة التنويرية، ومكتبة اليقظة في شارع المتنبي، تحوّلت إلى محل لبيع الأدوات الكهربائية، كذلك  مكتبة أطلس صارت متجرا للملابس، وهكذا تسير العدوى نحو مكتبة العائلة في ساحة النجمة فتتحول إلى صيدلية، وجاء قبل أيام خبر إغلاق مكتبة نوبل، فتتغير ملامحي وملامح الشام، والشوارع، ويختفي معها أهم الكتب المترجمة والمجموعات القصصة والشعرية، لتصل التراجيديا السورية من البشر إلى الحجر إلى المكتبات، فحين تختفي المكتبات تدمر المدن والإنسان، فقبل أن يدمر المغول بغداد في عام 1258م، دمروا عشرات المكتبات.

يبدو أن الحرب، الغلاء، هجرة كثير من الشباب والمثقفين، ثقافة التشبيح، السوق الاقتصادي الذي يتهاوى، اختلال قيم القراءة والكتاب، الرماد الذي يغطي المدينة، التي باتت مرتعا للأكشاك والعشوائيات، وهكذا تتراجع الثقافة وتنسحب مكتبة وراء أخرى تاركة المدينة أمام الخواء، فكيف سيكون عليه لون المكان؟

واليوم تتغير المكتبات، من التنوير إلى الظلام، من الكتب العالمية إلى الكتب الداعشية والمذهبية والطائفية، تحولات تراجيدية تصيب دمشق في ظل حرب وحصار ومجاعات وعتمة.

دمشق وقبل أن تحتلها أكشاك الأمن كانت مكتبة مفتوحة تحت سماء الله وفي كل الفصول، مكتبات الأرصفة، الكتب المستعملة، وكنا نشعر بمتعة الاكتشاف أو ملامسة أيدي مرّت على هذا الكتاب، نلاحق آثار تركت على هذه الكتب، الإهداءات، وردة بين الصفحات، ملاحظات في الهوامش، تظليل لبعض الكلام، صورة منسية، خربشات ،رائحة الورق،  كل هذا  يدلنا  على من مرّ وكأننا نتجول في غموض الوقت.

وبمقدار ما تمنح المكتبات للمدن نسمات كونية، بقدر ما تفعل الحرب والغزاة ،حرق الكتب، وهدم المكتبات، اعتقال الكتاب والشعراء، والبطل في هذه التراجيديا هو الحرب والحصار والطائفية والغزاة، المستبدون يكرهون الكتب و المكتبات، ولا يريدون للعقول أن تعود إلى الأوطان، فكيف ستكون حالة دمشق، وإلى أي حضيض آخر تمضي إليه؟

تُشكّل المكتبة رائحةَ أعمارنا، من الطفولة وحتى هذه اللحظة، ذاكرة فردية وجمعية معا، ذاكرة مدينة، وجزءا حقيقيا من الذاكرة المشتركة للبشر، لهذا ليس غريبا أن يحرق الغزاة المكتبات، وأن يهمش المستبد المثقف من دوره، وأن تفقّر البلاد، ولأن المكتبة هوية إنسانية، فالقراءة تعوضنا عن الخيبات، كما قال ماريو يوسا، وتساعدنا على فك شيفرات الوجود، معرفة معنى التاريخ أو عدم معناه، وما وراء المعرفة العقلية، نتعرف على أنفسنا في مرايا الآخرين، فهل نعرف دمشق حقا، أم  أن مرايا الوجود مشروخة إلى ما لانهاية؟

كل شيء ينزاح إلى بسطات الأرصفة، حتى الوطن نفسه، يتقاسمه الغزاة، وقطّاع الطرق، والميليشيات الطائفية، فيما  تتناثر عناوين أمين معلوف، أو أليف شفق، أو باولو كويلو، والطريق إلى غريكو، وداعا يا غولساري، كتب القانون، وحمورابي، ماركيز وماركس وبوشكين، فيما يبكي نزار قباني على الشام ومآذن الأموي .    

ربما جاء إغلاق مكتبة نوبل كسؤال كبير، كيف ستكون الشام من دون مكتباتها؟

بلا ذاكرة، تخيل أن تسير في شارع كان وجهة للفن والثقافة وتجد نفسك في مدينة غريبة ومكان بلا ذاكرة، إنهم الغزاة، الغزاة وحدهم من يدفعون بالثقافة إلى العماء، دمشق بلا مكتبات، اليوم، ليس غريبا أن نرى ما يحدث في دمشق، يحدث في حلب واللاذقية، وفي كلّ المدن السورية،  فالأنظمة الأمنية تخشى من الكتب، تفتش مكتباتنا وخزائننا، وثيابنا ودماغنا.

أقدم مدينة مأهولة في التاريخ، تقف اليوم بكل حزنها، فهل نصرخ كما صرخ بطل رواية "باب الشمس"، من الأول؟

المكتبات طريق الحب دائما، رحلة الوجود، أهم اكتشاف، شعرية العمران والروح، معلقات بابل، المكتبات مدن، بيروت يتيمة اليوم، ودمشق أيضا، لا معنى للمدن بلا مكتبات ولا للبيوت، تصبح مقابر، وأطلال حرب، دمشق تتغير، وليست كما قال لي عنها يوما الروائي الياس خوري:" مدننا هي مجمعات أرياف باستثناء المدن العريقة متل دمشق وحلب"، وأقول إنَّ أولَّ حائطٍ بُني في الأرضِ بعدَ الطُّوفان هو حائطُ دمشق، طوفان دمٍ ولا سفينة.