"لا حياة في مواقع التواصل إلا للتطبيع والاستهلاكية"

2020.12.27 | 23:01 دمشق

4634.jpg
+A
حجم الخط
-A

قد يجهل الجيل السوري في المنازح والمنافي شعار حافظ الأسد الذي رفعه في بداية الثمانينيات، بعد مذبحة كبيرة، وهو: لا حياة في هذا القطر إلا للتقدم والاشتراكية، وكان الأسد يتورّع عن كتابة شعاره "لا حياة للإسلام في هذا القطر" صريحاً، فعمد إلى الكناية بكتابة ما يظنه نقيض الإسلام زمناً أو فكراً، فأخزاه الله، ولم نر تقدماً ولا اشتراكية، ولم يقطع أرضاً ولا أبقى ظهراً، بل إن الحياة نفسها ضاعت في ظروف غير غامضة. فسوريا شبه ميتة، ومنه جاء عنوان هذا المقال في ديار مارك التي نزحنا إليها هربا من النار والموت وعسر الكلام وقيود الصمت.

والحياة في فيسبوك وتوتير غير حقيقية، ويصفونها بالافتراضية، فهي حياة وهمية تشبه الحلم، فهي أضغاث حياة. عدتُ إلى لسان العرب بحثاً عن معنى الوهم في كلمة فرض أو مفترض فلم أجد سوى الرمح الرديني باكيا، ومن معاني الفرض: الواجب والثلمة والفرض التوقيت. وكل واجب مؤقت، فهو مفروض. والفرض: الهبة. يقال: ما أعطاني فرضاً ولا قرضاً. والفرض: العطية المرسومة، ولا أدري سبب شيوع الافتراضي بمعنى الكاذب، وسبب ذلك هو علم الهندسة المعاصر، فلكل نظرية فرض وطلب وبرهان، وقد جاء معنى الفرض بمعنى الطرح الذي لا برهان له، وهذا يعني أن طبقات الألفاظ تنزلق مثل طبقات الأرض تحت الأقدام وتنقص الأرض من أطرافها.

 وقد نزحنا إلى العيش في أقاليم التواصل لانعدام الحياة في منازحنا الجديدة، فلا حياة إلا في الديار مع الأهل وقد تشردوا في العالم والقارات، وبنينا خياماً تحت ريح التعليقات، وعواصف الحظر والمطر في فيسبوك وتويتر ومرابع انستغرام، فتقلعها الريح أحياناً، ويسفعها العصف حيناً، ونجد أن شرطة فيسبوك ومخابراتها قد نزعت خيامنا من أجل كلمة أو جملة، فهي شرطة قوية النظر، مفتحة الأعين، يطيش صوابها من كلمات معينة، فتجد النابهين منا، أو الرجال البخّاخين يكتبون على الحيطان في الليل، فيكتبون بحروف متقطعة كما لو أنها كلمات لاتينية، هكذا: يا – هودي، ماس- وني، بروس- لي.. للنجاء والخلاص من هذا الملك الجبار الذي صعّر خده.

وانتبه كاتب السطور وهو يكتب عن حظر معارضي التطبيع وحجزهم في "الكرنتينا"، أن الكلمات في العربية متصلة، على نقيض كلمات اللغات المنفصلة التي تكتب حرفاً حرفاً، وتأثر الإنكليز بالعربية التي كان يدرسونها بالأندلس، فوصلوا حروف لغتهم، فصار فيها للحرف شكلان؛ شكل متصل للكتابة وشكل منفصل للقراءة، ثم عادوا ففصلوها، فكل حرف يستوجب رفع القلم وفطامه عن الصفحة، وتلقيمه المحبرة، وتوصف حيواتهم بالفردية. ونحن في مخيمات التواصل نحظى بأصدقاء كثر، لكن باقات وردهم صناعية لا لمس لها ولا همس.

عقوبة الصدع بالحق ومعارضة التطبيع تبلغ في ديار مارك التغريب والنفي شهراً غالباً، فينزح صاحبها إلى العيش باسم مستعار

وديار فيسبوك  ليست مثل ديار زينب ولا ديار مية ولا ديار خولة زرقاء اللون، لا ماء ولا شجر، والمرء بعد أن يموت يزرق لونه، وللون علاقة بلون علم الدولة التي بنيت على أنقاض فلسطين، وأعلام الدولة العربية المشرقية كلها ألوان حارة، مع أن الذي رسمها هو مارك سايكس، كما جاء في كتاب الإدارة العربية  لبروس ويسترات، فتوتير أزرق وأبيض، وفيسبوك أزرق وأبيض، وهي ألوان باردة، ويعمد ملكها إلى تغيير هيئة البيوت، وهندسة الشوارع في مدن فيسبوك، بداعي التطوير والتحديث، فنخسر كل فترة ذكرياتنا القديمة، فكأن ريحاً قلعت خيامنا فجعلتها عصفاً مأكولاً. ويصبح حالنا كحال الشاعر العربي:

أقفرت من أهلها ملحوب.

وعقوبة الصدع بالحق ومعارضة التطبيع تبلغ في ديار مارك التغريب والنفي شهراً غالباً، فينزح صاحبها إلى العيش باسم مستعار، وقد فقد جميع أهله وقبيلته، جزاء نكالاً على التنديد بالتطبيع، وكان مباحاً أيام الدكتاتورية التقليدية، أما الخطيئة فهي: إثارة خطاب الكراهية، وهو يشبه محظور توهين روح الأمة وإضعاف الشعور القومي في سوريا الأسد، وقد نشر موقع عربي واحد وعشرون تقريراً صحافياً جاء فيه أن:

"خبراء تقنيون وجدوا أن موقع فيسبوك عبث في "خوارزميات" وصول المنشورات إلى المستخدمين، في الصفحات التي تناولت التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي؛ بهدف تقليل مشاهدتها.

وأن صفحة "صدى سوشال" المتخصصة، وثّقت تراجعاً في الوصول إلى منشورات بنسبة 50%، ونقلت عن خبراء قولهم إن الموضوع متعلق بالتطبيع العربي. وتكرر استهداف موقع "فيسبوك" للمحتوى الفلسطيني، والناشطين الذين يغردون في ثكناتٍ تدافع عن القضية الفلسطينية، وتنشر انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني".

وجد مناضلون خوارزميون أشداء في ساحات فيسبوك أن بيوتهم قد دوهمت في الفجر، ونهبت محتوياتها لأن أصحابا غردوا ضد التطبيع، ووضعت تحت الحجز والبيع بالمزاد، ومنع صحبها من العودة إليها أو الكتابة فيها فترة أو تدمير الحساب وختمه بالشمع الأحمر، فهو نظام احتلال مغولي أميركاني.

 ويقوم الملك مارك وأمثاله من المتجبرين الناعمين بحرمان ملوك الرأي الذين يفتحون القلوب، بحرمانهم من الوصول إلى متابعيهم، لأن ديار فيسبوك هي ديار تواصل اجتماعي، وليس تواصل سياسي، يعني تحدث أيها الملك الصغير عن الطبخ وزي المرأة، لكن الحديث في السياسة التي تخالف سياستنا ممنوع.

رعايا القرن الجديد، سيحرمون من العمل والسفر والابتسام إن خلت بطائقهم من لقاح الكورونا

 ويخوض ملك أقوى دولة في العالم وهو يغادر البيت الأبيض حرباً قضائية مع فيسبوك وتويتر لأنها تحجب تغريداته وتغريدات متابعيه، ويقول أولو العلم إن ترامب خاسر، فلم يكسب المعركة وهو إوزة شرسة فكيف يكسبها وهو بطة عرجاء منتوفة الريش.

 وقرأت لعلماء -وقاكم الله السوء- أن رعايا القرن الجديد، سيحرمون من العمل والسفر والابتسام إن خلت بطائقهم من لقاح الكورونا، ويشاع كثيراً أنه لقاح نخاسة واستعباد وتطبيع، من يأخذه يخسر نفسه.

 لقد أثقلت على القارئ بالندب والرثاء والحديث عن الخيام واللئام، فأردت أن أزيده من الشعر أبياتاً في الذكرى والتذكر ونحن نعيش في ديار تشبه الكذب، فتذكرت أن قصيدة شوقي بغدادي التي حفظناها صغاراً في الابتدائية كانت وقوفاً مبكراً على الأطلال، وكنت أظنها قصيدة فرح وبهجة، وفيها قال:

يا بيتنا ودربُهُ الصغير حلو حرجُ/ شباكه يطل مثل طفلةٍ تبرّجُ/ وإخوتي أمامه صياحهم مؤجّج/ أسماؤهم على الجدار ذكرياتٌ تلهج/ وأمّنا جالسةً تصرخ، ثم تنسج/ أحبه... فسحتهُ وبابهُ والدرج/ يضحك لي كأنما جدرانه، تختلجُ».

 ووجدت أننا أمثال البدو الرحل في صحاري التواصل الاجتماعي. وكان البدوي سيد الكوكب وخليفة الله في الأرض، لا يدفع جزية، ولا يحمل بطاقة، ليس له صاحب في السفر سوى ناقته التي لا تخون، غير أن ناقة البدوي المعاصر لا تحمله، وليس لها لبن، هي عصفور توتير أو إيموجي فيسبوك في قفار الزرقاء وسرابها الشاسع.