لا حكومة لبنانية إلا حكومة تطبيع مع نظام الأسد

2018.08.26 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

إما حكومة تطبيع مع نظام بشار الأسد أو لا حكومة في المدى القريب. هذه هي المعادلة السياسية القائمة اليوم في لبنان. انقضت أربعة أشهر على تكليف الرئيس سعد الحريري بتشكيل حكومة جديدة، "توافقية" حكماً، تتمثل فيها جميع الكتل السياسية والبرلمانية. وطوال هذه المدة، كان واضحاً أن الحريري يواجه معضلة كبيرة تمنعه من إعلان ولادة الحكومة أو أن يقدم رسماً للتشكيلة الوزارية تتوزع فيها الأسماء والحقائب.

وللمزيد من التوضيح، هذه المعضلة قائمة على ثلاث عقد مستعصية، أولها "العقدة المسيحية". إذ يصر "التيار الوطني الحر" (العونيون) على حيازة حصة وزارية بحقائب أساسية، سيادية وخدماتية، تتناسب وحجم كتلته النيابية، لكن مضافاً إليها حصة وزارية خاصة برئيس الجمهورية ميشال عون (زعيم التيار ومؤسسه). هذا يعني عملياً، تقليص حصة "القوات اللبنانية" على نحو فادح.

ثاني عقدة "درزية". إذ يصر التيار العوني على قضم حصة "الحزب التقدمي الاشتراكي" الذي يتزعمه وليد جنبلاط، على نحو يهدد جدياً هذه الزعامة، التي باتت نيابياً لأول مرة برئاسة الابن تيمور جنبلاط.

العقدة الثالثة "سنّية". لقد أفرزت الانتخابات لأول مرة منذ العام 2000، كتلة من النواب السنّة من خارج "تيار المستقبل"، الذي يتزعمه سعد الحريري خلفاً لوالده الراحل رفيق الحريري. هؤلاء النواب السنّة يطالبون بحصتهم الوزارية، وهم سياسياً إما مقربون من "حزب الله"، أو مهادنون للنظام السوري، أو متحالفون مع التيار العوني.

لقد فرض "حزب الله" فيما سمي "اتفاق الدوحة" (2008)، مبدأ له قوة دستورية، هو مبدأ "الديموقراطية التوافقية"، حيث لم يعد من الممكن بعد اليوم إنتاج سلطة من أغلبية نيابية

الحال الشيعية محسومة: الحصة الشيعية الوازنة هي بكاملها من نصيب الحليفين "حركة أمل" (ورئيسها نبيه برّي) و"حزب الله".

إن رضوخ سعد الحريري ورئيس "القوات اللبنانية" سمير جعجع ورئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط، لشروط "التيار الوطني الحر" الذي يرأسه جبران باسيل صهر ميشال عون ورجله الأول، هو في نهاية المطاف رضوخ لإرادة "حزب الله"، المهندس الأساسي لكل هذه المعضلة بتشكيل حكومة جديدة.

لقد فرض "حزب الله" فيما سمي "اتفاق الدوحة" (2008)، مبدأ له قوة دستورية، هو مبدأ "الديموقراطية التوافقية"، حيث لم يعد من الممكن بعد اليوم إنتاج سلطة من أغلبية نيابية، قد تهدد نفوذه وسيطرته على الدولة كما حدث ما بين 2005 و2008. المتاح في "الديموقراطية التوافقية" هو فقط تشكيل حكومات "وفاقية"، لا يمكن اتخاذ أي قرار بمجلس الوزراء من دون موافقة أغلبية "ميثاقية" (شيعية، مسيحية، سنّية، درزية)

إنطلاقاً من هذه الترسيمة، لا يمكن للرئيس المكلف إعلان حكومته بأسمائها، ولا يمكنه توزيع الحقائب، إلا بعد نيل موافقة جميع الكتل النيابية الوازنة والشريكة في هذه المحاصصة. ولأن "فائض القوة" بيد "حزب الله"، فإن كل الاشتباكات السياسية والمنازعات اللبنانية الداخلية حول الحصص الوزارية، هي رهن إرادة الحزب المذكور وثقله الكبير.

بمعنى آخر، ليس للعونيين ولجبران باسيل القدرة والقوة على فرض تلك الشروط والإملاءات على سعد الحريري، لولا تيقنهم من الدعم التام والتشجيع بل والإيحاء من "حزب الله". فالعونيون يراهنون في تشكيل الحكومة العتيدة على تكرار سيناريو انتخاب رئيس الجمهورية ميشال عون. حينها أعلن حسن نصر الله بوضوح تام: إما ميشال عون أو لا أحد. ورغم كل المعاندة والمناورات والترشيحات البديلة والضغوط العربية والدولية، بقي لبنان لسنتين بشغور في سدة الرئاسة، إلى حين رضوخ القوى السياسية في نهاية المطاف لإرادة الحزب.

المطلوب هو تشكيل حكومة يضمن فيها "معسكر الممانعة" أغلبية حاسمة في مجلس الوزراء، لها ذاك الطابع "الميثاقي"، تفرض وجهة سياسية للبنان متماهية تماماً مع الاستراتيجية الإيرانية – الأسدية – الروسية

لكن، ما الذي يريده التيار العوني، أو بالأحرى "حزب الله"؟ ببساطة، المطلوب هو تشكيل حكومة يضمن فيها "معسكر الممانعة" أغلبية حاسمة في مجلس الوزراء، لها ذاك الطابع "الميثاقي"، تفرض وجهة سياسية للبنان متماهية تماماً مع الاستراتيجية الإيرانية – الأسدية – الروسية. ولا يمكن تحقيق ذلك بالاستناد إلى خريطة توزع القوى الطائفية وأوزانها في مجلس النواب. لذا، وتحت شعار "حكومة العهد" أي الحكومة المنسجمة مع إرادة الرئيس ميشال عون، يسعى كل من الحزب والتيار إلى حكومة تضم وزراء سنّة ومسيحيين ودروز (وشيعة بطبيعة الحال) موالية للحزب ولـ “إرشادات" حسن نصر الله، ومؤيدة للرئيس عون وداعمة للنفوذ المتضخم لجبران باسيل.

لا يتحقق هذا الهدف مسيحياً، إلا بمحاصرة "القوات اللبنانية" وتقليص عدد حقائبها الوزارية، وبإضعاف رئيس الحكومة السنّي بوزراء سنّة معارضين له، وبكسر الزعامة الجنبلاطية عبر توزير دروز موالين للنظام السوري ولـ “حزب الله".

أهداف المعركة ليست سرية. "حزب الله" أعلن مراراً وبإلحاح "حان الوقت لعودة العلاقات المميزة بين لبنان وسوريا". جبران باسيل يطالب يومياً بتطبيع سياسي رسمي مع النظام السوري، تحت شعار "عودة اللاجئين السوريين" وباسم الفوائد الاقتصادية وتحضير لبنان كـ “منصة لإعادة إعمار سوريا". وبالمقابل، كان لدى وليد جنبلاط وسمير جعجع وسعد الحريري جواب واحد تقريباً: لا تطبيع مع نظام الأسد. بل ذهب الحريري إلى أبعد من ذلك: لن أزور سوريا بوجود هكذا نظام، ولو أدى ذلك لاستقالتي من رئاسة الحكومة.

الصمود الذي يبديه الثلاثي، الحريري – جنبلاط – جعجع، مقابل اختلال التوازن الكاسح لصالح محور الأسد – "حزب الله" والجماعات الحليفة، قد لا يستمر طويلاً

المشكلة الفعلية أن الرافضين للتطبيع مع الأسد، والذين كانوا ذات يوم جزءاً من تحالف 14 آذار العريض، هم أضعف بكثير مما كانوا عليه في السنوات السابقة. فلا المنظومة العربية قادرة على توفير الدعم المكافئ لدعم إيران لحلفائها، ولا السياسات الأوروبية والأميركية بوارد ممارسة ضغوط مؤثرة في الداخل اللبناني على نحو ما حدث ما بين أعوام 2000 و2006. بل وعلى الأرجح، فإن النفوذ الروسي في سوريا بدأ يتوسع باتجاه لبنان بالذات. فيما الواقع الميداني والسياسي أعاد تسليط بشار الأسد على السوريين.. وعلى لبنان أيضاً.

الصمود الذي يبديه الثلاثي، الحريري – جنبلاط – جعجع، مقابل اختلال التوازن الكاسح لصالح محور الأسد – "حزب الله" والجماعات الحليفة، قد لا يستمر طويلاً. وحتى تلك اللحظة العصيبة، أي لحظة تدبير "التسوية" التي تكفل وحسب حفظ ماء وجه المنهزمين، سيبقي لبنان بلا حكومة، ولأشهر عدة.

في كل الأحوال، وما يجب قوله، ليس الأمر كما يصوره الإعلام، مجرد عادة لبنانية مقيتة في "التناتش" والمعاركة على مغانم وزارية وسلطوية، إنه نزاع فعلي على وجهة لبنان السياسية، وخطر وقوعه التام في المصيدة الإيرانية الأسدية. ولا ننسى أن الأمر نفسه، ولو بتفاصيل أخرى، يحدث الآن في العراق.