لا تقتلوا "مَن أحياها"

2018.07.25 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لم يفتحوا لهم طريقاً آخر يفضي إلى الحياة: الموت أو النجاة عبر المحتلّ.. ولم يتركوا لهم أيضاً وقتاً للتفكير أو محاولة فتح ثغرة مأمولة ولو في الحلم.. العدو من ورائكم، والعدو من أمامكم، ولا نجاة إلا بمنح تأشيرة "إنسانية" للمحتل مقابل تأشيرة عبوركم إلى الحياة.

هكذا كان المشهد فجر الأحد، متطوعو "الخوذ البيضاء" وذووهم من نساء وأطفال، محاصرون يحيط بهم الموت والتنكيل من كل جانب.. تواطأ الكل على إخراجهم، ولكنه كان إنقاذاً بنكهة الاغتيال.

نسمح لعناصر "داعش" و"النصرة" بالخروج إلى الشمال، ولا نسمح لهم، قال نظام الأسد للمفاوضين، كما أن العبور المشرّف إلى الأردن مباشرة ممنوع بأمر من روسيا التي تريد تحقيق رغبة ترامب وحلفائه الأوربيين بإخلاء عناصر الدفاع المدني من جهة، وقتلهم معنوياً من خلال إثبات "عمالتهم" بما يتناسب ومزاعم النظام من جهة أخرى..

لا قيمة لاتهامات نظام الإبادة الكيماوي، ولكن ظلم ذوي القربى هو الأشد على النفس من وقع الحسام، "الغاية لا تبرر الوسيلة"، قالها معارضون تعبيراً عن رفضهم عملية الإجلاء عبر الجولان المحتل، متناسين أن الحفاظ على النفس هو أول أولويات وضرورات الإنسان التي شرعتها الأديان السماوية والوضعية، والتي يقول بها العقل وترتجيها النفس التائقة للحياة بفطرتها.

لا قيمة لاتهامات نظام الإبادة الكيماوي، ولكن ظلم ذوي القربى هو الأشد على النفس من وقع الحسام، "الغاية لا تبرر الوسيلة"

ما كان يجب لهذه الوضعية أن تغري ناقداً ليسلط سيف قلمه أو لسانه على رقاب أولئك الذين أثبتوا بالفعل لا بالقول أنهم أشياع الإنسانية وأنصار المستضعفين، الحاضرون حيث نغيب، والظاهرون حين نختفي... عملوا تحت القصف، منحوا الحياة لمئات الآلاف، أخرجوا حيواتٍ من تحت الأنقاض، وقضى عشرات أومئات منهم في مكابدة منح البقاء للآخرين.

حرصتُ قبل كتابة هذا المقال على التواصل مع رائد الصالح، مدير الدفاع المدني السوري، الذي قال لي إن الإخلاء كان مقرراً إلى الأردن، قبل أن يبلغوهم في اللحظة صفر من الحصار، أن الأمل الوحيد بالنجاة يمر عبر بوابة الجولان المحتل.. وكل ما فعله جنود الاحتلال هو أنهم فتحوا البوابة للعابرين، حيث كانت حافلات أردنية بانتظارهم لنقلهم إلى المملكة.. والدفاع المدني لا تواصل ولا صلة له ولم ينسق بأي شكل ولا تحت أي ظرف مع المحتل.

أما لماذا لم يكن الإجلاء عبر الأردن، فلأن الدول المسيطرة على مفاصل المشهد، وكل المشاهد، أرادت منح "إسرائيل" ونظام الأسد وروسيا المقابل المتفق عليه، "إسرائيل" تظهر بمظهر المدافع عن الأبرياء وعمال الإغاثة، ونظام الأسد وروسيا يحققان الغاية بالتشكيك بدور أصحاب "الخوذ البيضاء"، ومِن أقوى بوابة يمكن أن تجلب العار، بوابة التعامل مع العدو الصهيوني، إذ يكفي في عالمنا العربي والإسلامي بها سُبّةً أن يقترن اسمك بـ"إسرائيل" لتُسجَّلَ إلى الأبد في سجلات الخائنين.

"إسرائيل" تظهر بمظهر المدافع عن الأبرياء وعمال الإغاثة، ونظام الأسد وروسيا يحققان الغاية بالتشكيك بدور أصحاب "الخوذ البيضاء"

نلوم من وُضعت حياته وحياة أطفاله على أسلاك المحتل الشائكة، فعبرها كسير الجناح والقلب، وننسى - في لحظة اتهامنا تلك - مَن لم ترتضِ "إسرائيل" بديلاً عنه لحماية حدودها، والعودة إلى ممارسة دوره التاريخي في احتراف الخيانة، مع هامش كبير يطغى على المتن، عنوانه "الممانعة والمقاومة"، ونغمض عقولنا في لحظة ظلامية يائسة، لنسمح لأنفسنا بتجريم من فرَّ بحياته وحياة أطفاله أو أبويه!.. وهو الذي أنقذ روحاً تخصنا ذات يوم، حين كنا فارين أو عاجزين، وكان هو وحده الحاضر والقادر.

هل كان يجب أن يموت هؤلاء تحت التعذيب وتُسلخ جلودهم أحياء في مسالخ النظام حتى نتفضَّل عليهم بوسام الشرف ونعلنهم أبطالاً في مواقع التواصل الاجتماعي؟..

هل قدمنا لأنفسنا بقدر ما قدموا لنا من حياة؟.. و"هل جزاء الإحسان إلا الإحسان"، لمن بقوا حينما خرجنا، وضحَّوا عندما بخلنا، وقدروا وقتما عجزنا.. وكانوا الأوفى لشعارهم، في وقت سقطت معظم الشعارات أو تبيّن زيفها، فلا تقتلوا مَن أحياها، "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا"..