icon
التغطية الحية

"لا تغسلوا أيديكم": تماثيل فنان سوري رسالة من الصابون بكامبريدج

2021.01.05 | 18:26 دمشق

20210109_bkp502.jpg
إيكونومست- ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

نحتت التماثيل الصغيرة الثلاثة ذات العيون الكبيرة من المرمر قبل أكثر من خمسة آلاف عام، لتقف اليوم في متحف فيتزويليام بكامبريدج، بعدما انضمت لمجموعة مؤلفة من مئات التماثيل الصغيرة التي تعرف باسم: "تماثيل العيون" والتي تم استخراجها في مطلع القرن العشرين من مبنى أثري ضخم في تل براك وهي مدينة أثرية تقع في شمال شرقي سوريا.

ويعتقد أن بعضاً من تلك التماثيل يمثل شخصية واحدة، فيما نحتت تماثيل أخرى يظهر فيها عدد من العيون لتعبر عن زوجين أو أسرة كاملة. ففي فنون بلاد ما بين النهرين، ترمز العيون إلى الإيمان والولاء للآلهة، ولهذا يوحي عدد وحجم التماثيل بأنها تركت في ذلك البناء كنذور أو كعربون ولاء وتحية، حيث نصبت هناك من أجل الشخص الذي كرست من أجله.

وخلال فترة الإغلاق في بريطانيا في ربيع عام 2020، تواصل متحف فيتزويليام مع عصام كرباج، وهو فنان سوري الأصل، ليشارك في مسلسل إذاعي يحمل اسم: "بعيني الداخلية"، وقد دعي خمسة فنانين وأدباء بينهم علي سميث وجاكي كاي للحديث عن الطرق التي يمكن من خلالها إحياء الفن في الذاكرة والخيال حتى عندما تكون المتاحف مغلقة.

وعندها خطرت للسيد كرباج على الفور فكرة التماثيل الثلاثة، وعنها يقول: "إنها مطبوعة في خلفية عيني مثل غرفة التحميض"، وفي داخل معرض فنون بلاد الشام وقبرص القديمة ضمن هذا المتحف، يصف لنا المشهد فيقول: "لقد تأثرت بنظرتهم الساحرة التي لا تنسى، واعتقدت أن ثمة شيء لطيف يدور حولهم"، فقد أعادت تلك التماثيل لذهنه ذكرياته مع أسرته.

صابون الغار

ولهذا قرر السيد كرباج أن يقوم بصنع نسخة أخرى من تلك القطع الأثرية، إذ منذ بدء الحرب السورية في آذار 2011، ركز هذا الرجل في عمله الفني على معاناة أبناء شعبه من السوريين ودمار الإرث الحضاري لبلده. ولهذا اختار أن ينحت تماثيله من صابون الغار الحلبي ضمن لفتة تحمل رسائل حول العناية بالصحة العامة خلال فترة تفشي الوباء، وأيضاً ثمة رسائل أخرى موجهة للحرب ولتاريخ بلاد ما بين النهرين (فقد اخترعت تلك المادة في مدينة حلب قبل آلاف السنين)، وعبر تلك الرسائل يحاول السيد كرباج أن يقول: "اغسلوا أيديكم، ولكن في الوقت ذاته لا تغسلوها، أي لا تغسلوا أيديكم من سوريا".

وهكذا جلس السيد كرباج إلى طاولة العمل في الاستديو الخاص به بكامبريدج لينحت 100 تمثال باستخدام سكين الجيب، إلا أنه لم يشعر بالرضا حيالها لأنها: "كانت جميلة لكنها لم تتحدث إلي" فقد كان يرغب بأن يرد على تماثيل تل براك لا أن يقوم بنسخها فقط، ولهذا قرر أن يعمل وهو معصوب العينين حتى ينجز: "شيئاً أكثر عفوية وبراءة. إذ ثمة ضعف في القطع التي تكون غاية في الوضوح لأنها تصبح غير متناظرة، وكأنها عليلة، أي أن الضرر يصبح أكثر وضوحاً".

وبهذه الطريقة الجديدة، قام هذا الفنان بكل صبر وأناة بنحت 366 تمثالا صغيرا من أصحاب العيون الكبيرة، حيث كان ينجز واحداً كل يوم خلال سنة كبيسة. وبرأيه، تمثل التماثيل الثلاثة الأثرية السنوات الكبيسة التي مرت على الحرب السورية.

 

وهكذا تم عرض ذلك العمل عبر الشابكة في متحف فيتزويليام المغلق حالياً بسبب القيود المفروضة جراء تفشي فيروس كورونا، لتمثل هذه المجموعة تماثيل أثرية ومعاصرة رصت جنباً إلى جنب ضمن سلسلة كاملة تحمل اسم: "لا تغسلوا أيديكم" كونها مصنوعة من الصابون، وتمثل هذه المجموعة التعاون الثاني لذلك الفنان مع هذا المتحف، إذ ضمت مجموعته: "ماء أسود، وعالم يحترق" عام 2017 ألف مجسم صغير لقوارب صنعت من بقايا واقيات طين تعود لدراجات وملئت بأعواد ثقاب محترقة.

وقد استلهمت تلك المنحوتات من ثلاثة نماذج لسفن تعود للفترة ما بين 400-300 قبل الميلاد والتي تم العثور عليها في سوريا. وهذا الأسطول الهش الذي يصور اللاجئين الهاربين من بلدهم، وقع الاختيار عليه مؤخراً ليصبح القطعة رقم 101 التي يتحدث عنها المسلسل الإذاعي الذي يحمل اسم: "تاريخ العالم في 100 قطعة" الخاص بالمتحف البريطاني، والذي تم بثه في كانون الأول من عام 2020 عبر المحطة الإذاعية الرابعة لمجموعة بي بي سي. (وذلك بعد فترات الانقطاع عن العمل في المؤسسات ومن بينها متحف فيتزويليام وكيتلز يارد، إلا أن هذه المجموعة أصبحت الآن جزءاً من المجموعة الدائمة للمتحف البريطاني).

هذا وقد عرضت أعمال السيد كرباج بشكل موسع في متاحف أخرى منها متحف فكتوريا وألبرت، ومتحف الآثار الكلاسيكية، ومتحف بين بفلاديلفيا ومتحف بروكلين. كما عرضت مجموعة: "ماء أسود وعالم يحترق" ضمن فعاليات احتفالية البندقية التي تعقد مرة كل سنتين وذلك في عام 2019. وتخبرنا السيدة أنستازيا كرسيتوفيلوبولو القيمة على متحف فيتزويليام عن تلك التجربة فتقول: "إن قضايا الهجرة ومشكلات انتقال السكان عقب فترة النزاع رسمت شكل العالم القديم في منطقة بلاد الرافدين، وماتزال ترسم شكل عالمنا اليوم. فالنزاع الذي امتد لعقد من الزمان في سوريا، وأزمة الهجرة في البحر المتوسط، والنقاشات السياسية حول أوروبا واستجابتها لتلك الأحداث بالتأكيد، والمشكلة القائمة داخلياً حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تدفعنا كلها للتفكير في تلك الظواهر".

هذا وتحتاج المنحوتات الصابونية الغريبة والآسرة أن يلقي عليها من يعاينها نظرة عن كثب. إذ عبر نحت تماثيل صاحبة عيون كبيرة، قام السيد كرباج بتكريم "السوريين الذين مايزالون غير قادرين على رؤية النور أو تنسم عبير الحرية".

المصدر: إيكونومست