لا بد من سوريا جديدة

2020.02.16 | 23:01 دمشق

asht_swrya.jpg
+A
حجم الخط
-A

إن لم يكن قاتلاً، جرح الجسد يشفى؛ ولكن جرح الروح غير قابل للشفاء. جُرِحَ كثير من السوريين، وقُتِل منهم كثير؛ وكل ذلك إصابات في الجسد. ولكن ما طال أرواحهم من تمزقات وجراح، يصعُب أن تشفى إلا بارتقاء يتجاوز طاقة البشر العاديين. سوريا التي نعرف، ذهبت إلى غير رجعة؛ ولا بد من سوريا جديدة.

لا بد أن يكون جرحه في الروح ذاك السوري الذي يتمنى لطائرة، اشتراها السوريون بدمهم ودموعهم، أن تأكلها النار، لأنها تحمل الموت أو التشريد له ولأطفاله. وهناك سوريٌ آخر ينفطر قلبه عندما يرى قبطان الطائرة ذاتها يتحول إلى أشلاء؛ وثالث يعتبر المهمة، التي ستمزق أبناء بلده، "مقاومة إرهاب". ورابع يراقب المشهد، ويسأل باستغراب: وهل أتعاطف مع هتلر وعائلته، أو مع طيّار لتسع سنوات، يدرك تماماً أن البرميل الأعمى الذي يرميه من ارتفاع آلاف الأمتار سيأتي على أرواح أبرياء؟!

هناك سوريون كانوا وما زالوا يعادون إسرائيل حتى العظم، وتراهم يفرحون لقصف إسرائيل لأهداف في بلدهم، لأنهم تيقنوا أن تلك الأهداف تستعدُّ لقتلهم وانتهاك أعراضهم أو تشريدهم في أية لحظة. وهناك "إخوة" لهم يرون في ذلك خيانة؛ متذرعين بأن تلك الطائرة تستهدف "الدولة السورية".

هناك سوري تشرد وأطفاله، ربما للمرة الثالثة؛ وحطَّ به الرحال أخيراً في خيمة يغطيها الثلج والوحل؛ ويجد عائلته وقد تحوّلت إلى أشلاء بسبب قصف مدفعي من "جيشه" الذي خدَمَ فيه يوماً، وتدرّب، وسمع من ضابط التوجيه المعنوي فيه بأن جيشه سيحرر الجولان. وهناك سوري على الضفة الأخرى يعتبر رامي المدفع بطلاً من "حماة الديار في الجيش العربي السوري".

هناك السوري الذي يرى في الروسي حليفاً وصديقاً وحامياً للدولة؛ ويرى في حرس إيران الثوري، وميليشيات حزب الله رديفاً ومنقذاً من الإرهابيين، الذين يريدون تدمير الدولة السورية

هناك السوري الذي يرى في الروسي حليفاً وصديقاً وحامياً للدولة؛ ويرى في حرس إيران الثوري، وميليشيات حزب الله رديفاً ومنقذاً من الإرهابيين، الذين يريدون تدمير الدولة السورية. وهناك أخوه السوري الذي يرى في هؤلاء قتلة لا تعنيهم حياة السوريين ولا سيادة سوريا، بل يبحثون عن مصالح، ونفوذ، ومشاريع خبيثة. وبالمقابل هناك مَن يرون في التركي محتلاً يبحث عن إحياء إمبراطوريةٍ عثمانيةٍ أفلت؛ وأخوه الذي تشرّد، يرى بها دعماً وحماية لروحه.

للبعض، الأسد ونظامه رمز شرعي لحماية البلد وسيادته؛ ولو استلزم ذلك دعوة الأصدقاء والحلفاء، ولو عانى الناس من العوز والجوع. و آخرون يرون فيه رمزاً للتمسك بكرسي السلطة، ولو فنيت سوريا وأهلها؛ ولا يعتبره شرعياً، لأنه قتل شعبه وشرده؛ واستجلب الاحتلال وباع موارد البلد، وارتكب جرائم حرب بحق شعبه.

في النصرة أو داعش، اللتين شوهتا كل ما هو نقي وطيب وخير في طلب السوريين السلمي للحرية والإصلاح، يرى بعض السوريين أنهما مزقتا المجتمع السوري بقدر ما فتكت به منظومة الاستبداد، حيث إن قادتهما تخرجوا من سجون النظام، أو موفدون من استخبارات عالمية، فيعتبرهما جزءاً من النظام؛ وآخرون يحسبونهما على الثورة.

أي عاقل على الضفتين السوريتين يعرف أنه لا يمكن لتلك القوى المتدخلة بالشأن السوري أن تأخذ جراح السوريين بالحسبان. ولا بد يعرف أيضاً أنها مأزومة حتى الثمالة: 

• روسيا حتى الآن لم تجنِ الثمر الذي أتت من أجله؛ فعلاقتها بإيران مضطربة، والأخيرة تعتبرها متآمرة على إخراجها من سوريا، ولا تسعفها بالحصار المضروب عليها أميركياً؛ وهي تخشى خسارة تركيا التي استثمرت فيها بالمليارات، وتكاد تخرجها من الناتو، وتشوش علاقتها بأميركا والعرب. وتبقى ذروة أزمتها في فشلها بإعادة تأهيل نظام لا يمكن أن يقبله أنس ولا جن. والذروة الأخرى وضعها الاقتصادي الداخلي المترنح بفضل بهلوانية بوتين وفريقه.

• تركيا تكاد تخسر روسيا؛ قضيتها المزمنة مع الـ ب ك ك لا تُحل، وربما تتفاقم؛ وضعها مع الناتو وأميركا وأوروبا في حالة اهتزاز. بعد الحشود في الشمال لا خيار أمامها إلا دخول معارك لا يعرف مآلاتها إلا الله. وإن لم تدخل، قد يهتز داخلها.

•  إيران الملالي تكاد تختنق؛ مشروعها الخبيث ويدها الدموية إلى انحسار إجباري؛ أداتها حزب الله يخرّب لبنان ويتسبب بخنق للبنان ينعكس عليه.

•••• أميركا تتلاعب بكل تلك القوى، وتنتظر خروجها كي تعيد ترتيب وجودها. أوروبا تفقد لمستها السحرية في القضايا الدولية، ترتعب من موجات هجرة جديدة، تبحث عن الانعتاق. تبقى إسرائيل، التي تجني على المدى القريب، ولكن عقّالها يحسبون ألف حساب لما هو قادم من أناس عرفوا أنها وراء مأساتهم.

كيف يخرج السوريون من مواجعهم وجراحاتهم؟ هل يؤجلون جراح الروح، علَّ معجزة تشفيها؟

والحال هكذا، كيف يخرج السوريون من مواجعهم وجراحاتهم؟ هل يؤجلون جراح الروح، علَّ معجزة تشفيها؟ هل يتمترسون عند تلك الجراحات غافلين عن الجرح الأكبر لبلدهم وعن مأزومية الآخرين وينتقلون إلى هامش الزمن، بانتظار الموت؟ أم أنهم يعطون لأنفسهم فرصة العودة إلى الحياة عبر العقل والعمل وإرادة الحياة، علّ الله يقضي أمراً كان مفعولا؟! لا يفيدهم، ولا ينقذهم استمرار شلال الدم؛ فلا يعيش عليه إلا نظام الاستبداد الذي ذبحهم جميعاً، ولا ينقذهم تصادم المتدخلين ببلدهم وحياتهم؛ فالأمر يتم على أرضهم وأجسادهم، وهم الخاسرون. ينقذهم التفكير والانطلاق بأن المتدخلين أعداؤهم جميعاً، وأكثرهم النظام الاستبدادي الحاكم، والذي تسبب بانتشار الحريق وتدخل الغرباء كي يستمر.  

قال دبلوماسي مهم -دولته لا تشارك بحريق سوريا- لصديق: 'إذا استمر هذا التشظي المجتمعي، واستمر المتنازعون دون رادع لإنقاذ البلد؛ ومن أجل أن  تنقذوا بلدكم، أنتم تحتاجون إلى حكماء ينجحون في تجميع القوى الراكدة في المجتمع، لتوحيد رؤيته للمستقبل من أجل فرض احترامه وإرادته على اللاعبين الداخليين والدوليين والإقليميين، إنها عملية شاقة، لكن لا بُدَّ منها".  

والآن، ليتيقّن الجميع أن هذا النظام لا يمكن أن يستمر. لقد انتهى إلى غير رجعة؛ إنه مجرد قفاز يُستخدَم الآن لتحقيق أغراض المتدخلين بسوريا فقط. لنلملم ما تبقى منها؛ لنلملم ما تبقى من أرواحنا ونعود بها الى الحياة. وهذا على السوريين ليس بمستحيل.