لا بد أن تنتهي المأساة السورية

2021.03.18 | 06:09 دمشق

20210315_2_47348773_63403325.jpg
+A
حجم الخط
-A

عشر سنوات مرت منذ أن خرج السوريون يحملون الورود مطالبين بالحرية والكرامة، حين صدحت حناجرهم بما تتوق إليه قلوب كل السوريين بالعيش في وطن تُحترم فيه حقوق الإنسان، ويفتخر أبناؤه بالانتماء إليه والعيش فيه، وطن قائم على المواطنة المتساوية، يصون كرامة مواطنيه ويكفل حرياتهم، وعلى نظام حكم مدني ديمقراطي قائم على التعددية السياسية، دولة تحكمها مجموعة من المبادئ الأساسية والقيم المنظمة للمجتمع ولسلطات الدولة، المبينة لحقوق كل من الحكام والمحكومين فيها، الواضعة للأصول الرئيسية التي تنظم سلطاتها العامة، وعلاقتها ببعضها البعض، تحدد صلاحيات وحدود السلطة السياسية، مع الحفاظ على حقوق وواجبات الأفراد، هذه المبادئ والقيم بمجملها تشكل مشروع دستور سوريا المقبل، استنادا إلى عقد اجتماعي يعبر عن التوافق على الحد الأدنى المشترك بين الأطياف والمكونات الاجتماعية، فهو التعبير القانوني والحقوقي عن الكل الاجتماعي ويشكل مقدمة مشروع الدستور، الذي يعتبر المرجعية الأساسية للتشريعات والقوانين كلها، ويجب ألا يأتي أي قانون يتناقض مع مبادئ الدستور، الذي يقع في قمة الهرم الخاص بقانون الدولة.

مشروع الدستور المقبل هو ضرورة وضمان لإنهاء الاستبداد الذي شرعنه الدستور الحالي الذي أجاز تغول وهيمنة السلطة التنفيذية ممثلة برئيس الجمهورية على باقي السلطات، حيث يتضمن مشروع الدستور الآليات اللازمة للتأكد من اتساق الممارسات الدستورية مع مضامينه، ليضمن تطبيقه على أرض الواقع وعدم السماح بالتشريع وإصدار قوانين تتناقض مع مبادئه. وهو المدخل الدستوري والقانوني لتحقيق عملية الانتقال السياسي المنظم.   

رغم مرور عقد كامل، عانى خلاله الشعب السوري قمعاً وتجويعًا وتشريداً وقتلاً ودماراً رهيباً، ما زال السوريون يخرجون إلى الشارع مطالبين بالحقوق نفسها، الحرية والكرامة والعدالة، إن كل المسببات التي دفعت الشعب للثورة ما زالت قائمة، لا بل ازدادت عمقًا وتنوعًا وباتت تطول شرائح أوسع من المجتمع.

وفق الوقائع، من المؤكد أن السوريات والسوريين من كل مواقعهم، لن يتوقفوا عن سعيهم لاسترداد ما سلب منهم من حقوق إنسانية ودستورية وقانونية، وصولًا لتحقيق تطلعاتهم التي ثاروا من أجلها للوصول إلى دولة المواطنة المتساوية التي تصون كرامتهم وتكفل حرياتهم وتضمن لكل السوريين حقوقهم وتلبي مطالبهم، ليكون كل طيف من أطياف ومكونات شعبها لبنة أساسية لا يكتمل دونه بناؤها، دولة القانون والقضاء النزيه والمستقل التي تحقق المساءلة والمحاسبة وتحقيق العدالة، ويرتبط مفهوم السيادة فيها عضويًا بحقوق الإنسان.

آن الآوان لإيجاد آليات فعالة لوقف عذاب المعتقلات والمعتقلين وإطلاق سراحهم، ومعرفة مصير المغيبات والمغيبين قسريًا، آن الآوان لإنهاء معاناة الأطفال وأسرهم في المخيمات، وعودتهم الطوعية والآمنة والكريمة إلى مواطنهم الأصلية التي هجروا أو نزحوا منها، نريد عودة أطفالنا وشبابنا إلى مدارسهم وجامعاتهم واستعادة مستقبلهم الضائع المسروق، يؤسفني جداً أن المجتمع الدولي لم يؤد واجبه كما يجب أمام كل هذه المآسي، ولا يزال يتحرك ببطء وتردد، ولا يقدم السبل الممكنة لوضع حد لهذه المأساة الإنسانية الأكبر في التاريخ الحديث.

من واقع التزامنا بواجبنا تجاه معاناة شعبنا، والمأساة التي يعيشها، نستمر بالعمل على التواصل مع الدول الشقيقة والصديقة لتنسيق جهودنا على المسارات الدبلوماسية والقانونية والاقتصادية بما سيؤدي إلى الضغط الفاعل لدفع العملية السياسية قدماً، وصولًا للتطبيق الكامل والصارم لقرارات مجلس الأمن رقم 2254(2015) و2118(2013) متضمنا بيان جنيف.

إننا نبذل كل جهودنا لأن نصيغ دستورا جديدا لسوريا، يكون الضامن الأساس لحرية المواطن وحماية كرامته، وتحقيق العدالة الاجتماعية للجميع دون استثناء، ودون تمييز على أساس الدين، أو العرق، أو الجنس، أو أي أساس آخر، والفصل المتوازن والواضح بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، لضمان عدم تغول أحدها على الأخرى، ضمانا لعدم تكرار المأساة التي يعيشها شعبنا.

لقد أثبتت السنوات القليلة الماضية أنه من الخطأ الفادح أن نتخيل أن ما يحدث في سوريا ليس له تأثير على العالم، إن إنهاء المأساة السورية هو في مصلحة الدول المعنية في الإقليم وشعوبها بقدر ما هو في مصلحة سوريا وشعبها، وضمان لتحقيق الأمن والسلام الإقليميين والدوليين، على هذه الدول إدراك ذلك، والمضي بشكل جدّي ومسؤول وغير موارب، لدعم الحل السياسي، والاعتراف بأنه لا يمكن تحقيق ذلك الحل إلا إن كان الطرفان السوريان يملكان النوايا الحسنة والإرادة الصادقة للتوصل إلى تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254(2015)، إن الحقيقة التي تم إثباتها منذ بدء مفاوضات جنيف في العام 2014  وإلى الدورة الخامسة من اجتماعات اللجنة الدستورية بتاريخ يناير/ كانون الثاني 2021 ، هي أن النظام لا يؤمن بالحل السياسي لا بل يعمل كل ما بوسعه لإعاقته، إن استمرار المجتمع الدولي بالتغاضي عن هذه الحقيقة  باستخدام مقولة إن العملية السياسية هي عملية سورية-سورية وبقيادة سورية، باتت دافعا بحد ذاتها نحو استمرار تعنت النظام، واستمرار معاناة الشعب السوري، وباتت تعبر عن عدم وجود رغبة من الدول التي عملت ووافقت على قرار مجلس الأمن 2254(2015) لتنفيذه، طالما لم يتم وضع نهاية لتعنت النظام وسياساته التي تدمر سوريا ستستمر معاناة شعبنا ولن يكون ممكنا أن نجعل من هذا العام، عام السلام في سوريا.

في ظل تباطؤ المجتمع الدولي لا سيما الدول ذات العلاقة بالمأساة السورية في الدفع نحو الحل السياسي، الذي يسعى النظام بكل ما يملك للتهرب منه والقضاء عليه، ليحول المفاوضات إلى عملية تفاوضية أمنية وعسكرية بينه وبين الدول، لا بد من إبقاء العملية السياسية حية، كونها هي ما يبقي قرار مجلس الأمن رقم 2254 (2015) حيا، فهو ضمان إبقاء مطالبنا الإنسانية والدستورية والقانونية حية، وهو ما يثبت أنه لا شرعية لهذا النظام ويضع خريطة طريق للحل السياسي.  يتوجب على السوريين الثبات وشق طريقهم باستمرار نضالهم السلمي ضد ثلاثية الاستبداد والفساد والإرهاب التي باتت تقضي على مقومات استمرار حيواتهم وتتغذى من سرقة قوت يومهم وتعتاش على دمائهم وتستلب أرواحهم،  علينا بناء الجسور بين مكونات وأطياف الشعب السوري التي باتت تعاني جميعها من نتائج سياسات النظام، هذه السياسات إن استمرت ستؤدي إلى استمرار بقاء وطننا مقسما وفاقدا لسيادته واستقلاله، وتآكل ما تبقى من مؤسسات الدولة وإفقار شعبنا الذي بات اثنان وتسعون في المئة منه تحت مستوى خط الفقر، محتلا المرتبة الأولى عالميا، ستعني بقاء النازحين بعيدا عن ديارهم الأصلية واللاجئين خارج وطنهم، التاريخ لن يرحم جيلنا إن لم نعِ استحقاقات هذه المرحلة الخطيرة، على كل سورية وسوري أن ترقى ويرقى لمستوى هذه المسؤولية لاسترداد وطننا ممن دمره واستباح سيادته ورهن مستقبله ببيع ثرواته من أجل التشبث بسلطة متوهمة بحقيقتها مرتهنة وخاضعة لمصالح الآخرين، هذه السلطة تعمل على زرع الكراهية والحقد بين السوريين لتجعل بعضهم عدوا للبعض الآخر، علينا ألا نقع في الفخ الذي رسمه وخطط له النظام.

 إني على ثقة، بأننا كسوريين وسوريات، يداً بيد، قادرون على أن نبني وطننا من جديد، ونداوي الجراح التي نزفت لعقد كامل من الزمن، ونضمّدها، الكراهية لا تعالج بكراهية مقابلة، والظلم لا يعالج إلا بتحقيق العدالة، والجريمة لا يقضى عليها بجريمة مقابلة إنما بالمساءلة والمحاسبة عبر القضاء العادل والمستقل. علينا التحلي بالمسؤولية والإصرار، هذا ما سنقوم به من جهتنا في اللجنة الدستورية، سنمضي قدماً بالمهمة الموكلة إلينا، دون أن نتخلى عن أي هدف من أهداف الثورة وتطلعات شعبنا التي استحقها، وسنطالب بحقوق الجميع، طفلاً وامرأة ومعتقلاً ومنكوباً ومكلوماً، سنسعى لأن يحقق دستور سورية المقبل كل الطموحات، وكل المعايير الدولية للديمقراطية والإنسانية والحضرية الراقية، فحجم التضحيات التي قدمها السوريون لا يعادلها إلا حل يحقق لهم دولة ووطنا يليق بهم، يحقق ما طمحوا إليه وما ضحوا من أجله، هذا ما نعاهدهم عليه أيضاً.  علينا أن نذكر أنفسنا جميعا بأن النصر في سورية، هو كل شيء عن تحقيق العدل وكسب السلام، وليس الفوز في الحرب التي لن تحقق الأمن والسلام المستدامين. هذا هو النصر الوحيد الذي يمكن لجميع السوريين مشاركته ويكونوا جزءا منه.