icon
التغطية الحية

لاجئون سوريون في لبنان: أوضاعنا تتدهور وفقدنا الأمل

2022.06.14 | 15:35 دمشق

أسرة عبد الجليل الشريف السورية المقيمة في لبنان
أسرة عبد الجليل الشريف السورية المقيمة في لبنان
آيريش إكزامينار - ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

يتمتع عبد الجليل الشريف بابتسامة آسرة، إذ عندما التقيت به في الشارع الذي يقيم فيه بشقة في بيروت، فتح ذراعيه على وسعهما ماداً راحتي يديه نحو الأعلى، ومال برأسه نحوي قبل أن يضع راحة يده اليمنى على صدره.

بعد ذلك سار قبلي في ممر ضيق مخصص للمشاة لنقطع مرآباً صغيراً قذراً للسيارات كان أشبه بجحر، حيث اقتادني أنا والإيرلندي لوك هاملتون، وزميلته نادين مظلوم إلى درج حجري عال يصل إلى شقته، وذلك لأن نادين ولوك وزميلاً آخر لهما، وضابطَ ارتباط لبناني يعرف عائلة الشريف جيداً على ما يبدو، يعملون لدى المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة، ولهذا فهم يساعدون الأسر اللاجئة مثل أسرة الشريف (من بين 839086 لاجئاً سورياً مسجلاً حالياً لدى المفوضية) يعيشون في ظل ظروف يصفها لوك بأنها "قاسية".

نصحتني نادين ولوك بألا أطرح أي سؤال عن حلب وذلك خلال لقاء قصير جمعني بهما قبل تلك المقابلة، وبالرغم من أنهما لم يتوسعا في الحديث عن ذلك، إلا أن هنالك دائماً إحساساً بالخطر عند طرح أسئلة حول ما حدث قبل أن يفر المرء من منطقة حرب، وذلك لأن أسئلة كتلك يمكن أن تثير ذكريات غير مرغوبة حول شيء صادم.

نظرة طفولة حزينة

بعدما اطلعنا على صور تلك الأسرة التي التقطت خلال المقابلة، لاحظت وجود نظرة في أعين الأطفال الأكبر سناً  لم أرها في أعين الطفلين اللذين ولدا بعدما فرت تلك الأسرة إلى لبنان.

إذ خلال السنة التي تحولت فيها المظاهرات السلمية المناهضة لنظام بشار الأسد إلى حرب وحشية دموية امتدت زمناً طويلاً، ولدت الابنة الثانية لتلك الأسرة، واسمها شهد، أي في عام 2011.

في ذلك الوقت، كانت لدى تلك الأسرة ابنة واحدة، وهي سدرة التي ولدت، عام 2008، والتي أصبح عمرها اليوم 14 عاماً.

وخلال الفترة ما بين 2011-2015، عانى عبد الجليل وزوجته من النزاع الدائر حولهم في حلب التي تعرضت لقصف مركز لا يرحم من قبل قوات الأسد وحليفته روسيا.

وبعد مرور عامين على الحرب التي قُتل فيه ما يقارب من 350 ألف شخص، ولدت مريم لتلك الأسرة، عام 2013، وفي عام 2015، شعرت الأسرة بأنها عانت بما فيه الكفاية، وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير  هي تعرض منزلهم للقصف.

تبعنا عبد الجليل عبر الدرج الحجري الشاهق إلى أن وصلنا إلى عتبة الدار حيث مد ابنه البالغ من العمر ست سنوات والذي بدت السعادة والبهجة على وجهه، رأسه فجأة من خلف منشر للغسيل.

قادنا عبد الجليل إلى غرفة خالية من كل شيء عدا سجادة سوداء سميكة تغطي الأرضية الحجرية، وبعض الوسائد التي أسندت إلى الجدار المقابل، ثم دخلت بنات عبد الجليل الصغيرات إلى الغرفة وتبعتهن أمهن، حيث أخذ الجميع يبادلنا نظرات الترحيب.

وهنا بدأ عبد الجليل حديثه بالقول: "أنا من حلب.. ولدت وترعرعت فيها"، ثم استقر فوق السجادة السميكة وتحلق أولاده حوله، فتابع: "تركت البلد بسبب العنف، إذ عشت في لبنان قبل ذلك، كما هرب بعض أقاربي إليها، فلحقت بهم. ثم إن بيتي دمر عن بكرة أبيه، ولم يعد لي بيت هناك، ولهذا، أتيت إلى هنا بسبب الحرب والعنف.. بيد أن الوضع الاقتصادي لم يعد معقولاً، وهذا ما جعل حياة عائلتي هنا مستحيلة.. فلبنان ليس بمكان مناسب لتقيم فيه أسرة، خاصة وأنه لم يعد بوسعي أن أبني بيتي من جديد".

كان عبد الجليل يعمل في مجال الزراعة، حيث يكدح في الأراضي، إذ كان يتردد على لبنان خلال تسعينيات القرن الماضي، عام 2015، قرر أن ينتقل بشكل نهائي إلى هناك بسبب الحرب الدائرة في سوريا. يومها، لم يكن ولداه الصغيران محمد وندى قد ولدا.

أخذت ندى البالغة من العمر أربعة أعوام تبتسم للجميع وهي ترتدي ثوباً أصفر رائعاً، إلا أنها أمضت معظم الوقت في رسم حركات ساخرة على وجهها وجهتها لشقيقها الأكبر منها سناً، والذي يبلغ من العمر ستة أعوام، ما جعله يضحك عليها وهو جالس معظم الوقت بجانب أبيه، في الوقت الذي أخذ فيه يبتسم وينظر بفضول إلى الكاميرا، كما كان يندفع بين الفينة والأخرى لينظر إلى مفكرة أحد الصحفيين أثناء المقابلة، وفي أحيان أخرى أخذ يقلد صحفياً آخر وهو يقوم بتدوين الملاحظات.

أما ندى، فقد كانت تحمل هاتف أبيها الجوال التعيس وتتظاهر بأنها تجري مكالمة بصوت خافت، وهي ترسم تلك الحركات الطفولية على وجهها، أي أنها كانت هي وشقيقها كأي طفلين سعيدين في مثل عمرهما، عندما أخذا يلعبان ويلهوان بشكل عشوائي.

أطفال بلا ألعاب

بعد مدة من الزمن، وبعدما أدركنا بأن المقابلة امتدت لأكثر من ثلاثين دقيقة، لاحظت شيئاً يميزهما عن بقية الأطفال في مثل سنهما، إذ لم تكن لديهما ألعاب، ولهذا سألتهما الناطقة الرسمية باسم المفوضية العليا للاجئين، نادين مظلوم، والتي عملت كمترجمة فورية خلال المقابلة، إن كان لديهما أية ألعاب.

فهز الأب رأسه حزناً، وأشار إلى سجادة صغيرة وضعت فوقها أشياء بسيطة وبقيت تحت الدرج الشاهق الذي يصل إلى العلية، ثم شرح لنادين، وهي مستشارة إعلامية سابقة لدى منظمة أوكسفام، انتقلت للعمل لدى المفوضية العليا للاجئين منذ شهر كانون الثاني الماضي، بأن لديهم عدداً قليلاً جداً من الألعاب، فالبنات ينمن في العلية على الأرضية، إذ تنام مريم، 9 سنوات، وشهد، 11 عاماً، مع سدرة، 14 عاماً، عندما تكون في البيت، وذلك لأنها تقيم في مستوصف في بعض الأحيان، حيث تتلقى العلاج من مرض الجنف.

لذا فإن المساحة المتبقية في العلية هي مجرد فتحة سماوية تتوسطها غرفة محاطة بأكياس الملابس وعلب وصناديق، هي كل ما لدى الأسرة من ممتلكات، فالبيت مؤلف من غرفة واحدة، وهي المطبخ الذي يجاوره حمام ومرحاض صغير.

وجهاز التلفاز والفيديو الوحيدين الموجودين في غرفة المعيشة الرئيسية جرى استبدال النسخة القديمة منهما بعد تعطلهما لمدة سنة كاملة، وذلك لأن عبد الجليل لم يستطع تحمّل تكاليف شراء جهاز رخيص مستعمل، إذ قال لنا: "يحصل العامل الماهر على أجر يتراوح ما بين 250 إلى 280 ألف ليرة لبنانية باليوم، أي أن ذلك هو أعلى أجر بالنسبة للعمال، إلا أنه لا يكفي لشراء أي شيء"، وذلك لأن هذا الأجر لا تتجاوز قيمته خمسة دولارات باليوم.

ويتابع قائلاً: "لدي ابنة مريضة، وهي الآن في المستوصف"، ثم يعرض علينا صورة لها وهو ينظر إليها بفخر واعتزاز ويبتسم وهو يهز رأسه وكأنه يقول: "إنها ابنتي"، ويكلف دواء ابنته نحو مليوني ليرة لبنانية بالشهر، أي ما يعادل 40 دولاراً تقريباً.

وفي الوقت الذي يحصل فيه عبد الجليل على نحو أربعة ملايين ليرة لبنانية (ما يعادل 80 دولاراً) بالشهر تصله كمعونة شهرية من قبل المفوضية العليا للاجئين بالإضافة إلى مساعدات غذائية تصله عبر برنامج الغذائي العالمي، يتقاضى عبد الجليل ما يصل إلى ثلاثة ملايين ليرة لبنانية بالشهر (أي ما يعادل 60 دولاراً)، ولكن فقط إن أسعفه الحظ.

وهذا ما يدفعه للقول: "في بعض الأحيان أحصل ثلاثة ملايين، إلا أن هذا يعتمد على وضع العمل، وحتى لو وجدت عملاً كل يوم، فلن يكفي هذا... ولهذا فإنني أبحث دوماً عن أي عمل بوسعي القيام به، جيث أعمل كعامل في أي موقع بناء أو في مجال الزراعة، أو أي عمل بوسعي الاشتغال به، وذلك لأنه حتى اللبنانيون أنفسهم يعانون، والكثير منهم غادروا البلاد... كما أن أصحاب الأعمال والمشاريع التجارية قد غادروا أو على وشك الرحيل، وهذا يعني أن فرص العمل المتوفرة ستقل، ولهذا أبحث دوماً عن عمل أو أي شيء بوسعي أن أعثر عليه".

مؤشر أدنى نفقات المعيشة

تصل نفقات عبد الجليل الشهرية إلى سبعة ملايين ليرة لبنانية (ما يعادل 140 دولاراً)، أي أن ذلك أقل بكثير مما يعرف بمؤشر سلة النفقات الدنيا المخصصة للمعيشة، إذ يقاس ذلك المؤشر بكلفة أقل مقدار من الأغذية تحتاجه أسرة مؤلفة من خمسة أشخاص لتعيش في الشهر، وفي لبنان، وصل مؤشر المعيشة إلى نحو 200 دولار.

ووفقاً لبحث أجري خلال السنة الماضية، فإن 90% من اللاجئين في لبنان يعيشون تحت مستوى أقل بكثير من مؤشر الحد الأدنى، وذلك لأن مصاريف عبد الجليل تشمل دفع مبلغ يعادل 28 دولاراً بالشهر مقابل الحصول على خدمة المولد الكهربائي الموجود في المنطقة.

وبالرغم من أن إيجار بيته يعادل مليون ليرة لبنانية بالشهر، إلا أنه يخبرنا، مثله مثل غالبية المقيمين في تلك المدينة، بأنه يتعين عليه أن يدفع الإيجار بالدولار، أي أنه يدفع مبلغ 40 دولاراً بالنسبة لبيته، كما تمثل المياه مصروفاً آخر، إذ في الوقت الذي يحصل فيه عبد الجليل على مياه "عذبة"، إلا أنها سامة ولابد من تنقيتها.

ولهذا أصبحت ابنته مريم تشتكي من ألم في كليتيها، ولهذا يجب أن تحصل على مياه معلبة يومياً بما أنها أنقى من المياه المتوفرة لديهم، وهذا يكلف مالاً، إذ يقول عبد الجليل: "تعاني ابنتي مريم البالغة من العمر تسعة أعوام من مشكلات في كليتيها، ولهذا علي أن أشتري لها مياهاً خاصة تتم تنقيتها وهي المياه التي نشتريها من المتجر... لأنها لا تستطيع أن تشرب مياه الصنبور أو أي نوع آخر من المياه الموجودة في البيت، ولهذا فإنها تشرب من مياه معلبة خاصة، وهذا ما يكلفنا نحو 250 ألف ليرة لبنانية بالشهر (أي ما يزيد على أربعة دولارات)، ولا يمكننا في بعض الأحيان تحمل هذه النفقات".

وتابع: "ثم إن أولادي باتوا يدركون الوضع، ويفهمون ما يحدث، ولذلك توقفت مريم عن الشرب، وبعد يومين، ذهبت إلى المدرسة لآتي بها من هناك وذلك لأنها عانت من آلام شديدة بسبب عدم شربها لكمية كافية من المياه، وهذا ما تسبب بظهور هذا الألم من جديد. إذ حتى لو توفر الماء، فإنها لا تشرب منه كثيراً لأنها تريد أن توفر في النفقات. وقبل أيام قليلة، وبينما كنا نتناول طعامنا سوية، والأسرة تشرب من مياه الصنبور العادية، سألناها: أين الماء المخصص لك؟ فردت بأنه في الثلاجة عادة، ثم قالت: سينتهي إن واظبت على شربه، وعندها سيترتب عليكم شراء قارورة أخرى لي... وهكذا صرنا نتحدث حول هذا الموضوع كل يوم تقريباً، وذلك لأننا نستهلك الماء كل يوم طوال الوقت".

وهنا أضافت الأم فوزة بأنها "تقلق على صحة الأسرة وعلى صحة والدها، ولهذا فإنها تعبر عن تعاطفها بتلك الطريقة". ثم إن الأسرة تتلقى مساعدات من قبل الجيران، إلا أن كل ذلك تغير نظراً لأن الجيران أنفسهم باتوا يعانون اليوم مثلهم.

يقول عبد الجليل: "لدينا جيران رائعون يساعدوننا بالملابس والماء والطعام.. إلا أن الوضع أصبح لا يطاق بالنسبة للأهالي والسوريين على حد سواء. إذ قبل هذا الوضع كان بوسع الناس تقديم المساعدة، ولكن الآن بعدما قلت فرص العمل أصبحوا يعانون مثلنا".

بقي عبد الجليل يبتسم بكل ود وأدب طوال المقابلة، وهو يحيط أولاده بذراعه وهم يلعبون حوله وعند قدميه، كما كانت الدموع تتجمع في عينيه بين الفينة والأخرى، إلى جانب ابتسامته التي أخذت تختفي، لتحل محلها نظرة جدية، خاصة عندما سئل عن مشاعره تجاه الورطة التي يعيشها اليوم، وكيف يشعر حيال مستقبله.

لا أمل ينتظر اللاجئين في لبنان

نصحتني نادين ولوك عدم طرح السؤال المباشر الآتي: أتود أن تسافر إلى أيرلندا؟ وذلك لأن هذا السؤال قد يمنحه هو وأسرته أملاً كاذباً وتوقعات غير صادقة، كما أن هذا الصحفي سمع من كل الأطراف بأن الأمل ضعيف أو ليس هناك أي أمل بالنسبة للاجئين في لبنان.

وهذا ما دفع عبد الجليل لسؤال نادين: "كيف أشعر؟ إننا لا نعيش، بل نحيا فقط، وذلك لأن الوضع سيء جداً، إذ في بعض الأحيان أمشي في الشوارع لأنني لا أدري ماذا أفعل".

وهنا كف عبد الجليل عن الكلام لوهلة عندما هاجمت ابنته الصغرى شقيقها وهي تلعب معه، ثم تابع قائلاً: "بما أننا فقراء لذا فإن ما حدث في سوريا أتى وقعه ثقيلاً علينا مقارنة بغيرنا... وذلك لأن الأغنى منا تمكنوا من السفر إلى دول أخرى، ولكن بما أننا فقراء، سواء هنا أو في سوريا، فإننا تضررنا أكثر من غيرنا"، وعندما سئل عن مستقبله، هز رأسه وقال: "ليس لدينا أي طموح، فهذا الوضع مأساوي... إذ لم يتحسن أي شيء بالنسبة لنا حتى نفكر بالمستقبل، بل تدهورت الأمور نحو الأسوأ، ولهذا فقدنا الأمل... لدرجة أنه حتى إن تعطل شيء في البيت فإننا لم نعد قادرين على إصلاحه، فما بالكم بالتفكير بالمستقبل أو بأي طموحات أو آمال أو أحلام؟!!! ولهذا أصبحت المسألة مسألة بقاء وحسب، أي أننا نعيش يوماً بيوم، ونكتفي بالأكل والشرب والنوم، ما يعني أننا في وضع العيش فقط لا الحياة".

نادراً ما تتوفر الكهرباء لدى تلك الأسرة، إذ بعد أسبوع من انقطاعها، اعتادت الأسرة على توفر ساعتين من الكهرباء في الصباح والليل.

قبل أن ينطلق عبد الجليل لإحضار ابنته من المستوصف حيث تتلقى العلاج، خاطب نادين بقوله: "إن الوضع مأساوي... أصبحت أشعر بأن حياة الناس في الغرب أهم وأكبر قيمة من حياتنا هنا، في هذه المنطقة، كما أنني أحس بوقع هذه المحنة، فلقد كبرت وأنا أكره الطريقة التي أعامل بها أنا وغيري من الناس والكراهية التي نتعرض لها، إذ بوصفنا سوريين بتنا نشعر بأننا أصبحنا بلا قيمة... لذا فإن كل من تتسنى له فرصة الهجرة عليه أن يتمسك بها، ويغتنم تلك الفرصة، لأنه لم يعد هنالك أي أمل للناس هنا بلا أدنى شك، لقد تشتت عائلتي في مختلف أرجاء الأرض، إذ لدي شقيق يعيش في تركيا لم أره هو ووالدي منذ سنين... وقد كنا نحلم مثلنا مثل غيرنا من العائلات بالعودة إلى سوريا، لكننا لا نستطيع العودة إلى بلدنا بكل بساطة"، وهنا تهدج صوته قبل أن يضيف: "تلك هي محنتنا ومأساتنا".

 

 المصدر: آيريش إكزامينار