كيف يمكن أن يعود مليون سوري للشمال؟

2023.06.02 | 07:03 دمشق

كيف يمكن أن يعود مليون سوري للشمال؟
+A
حجم الخط
-A

الحديث عن مصير شمال سوريا حيث تسيطر المعارضة السورية على بقعة جغرافية كبيرة مرتبط بتفاهمات دولية وإقليمية معقدة جداً، فالوجود العسكري لأكثر من دولة أدى إلى خلق مناطق نفوذ وسيطرة يبدو أنها ستبقى لفترة طويلة، هذه التفاهمات تبدو بعيدة المنال نتيجة لارتباطها بملفات أخرى مثل الحرب الأوكرانية والصراع على غاز البحر الأبيض المتوسط بين الدول المتشاطئة والاتفاق النووي مع إيران وما يسمى بالحرب على الإرهاب ومواجهة النفوذ الصيني الذي وضع قدماً في منطقة الخليج، والتهديد الذي يمثله حزب العمال الكردستاني بفرعه السوري على تركيا وسوريا معا. فلا الأميركان لديهم نية للانسحاب ولا الأتراك بطبيعة الحال ولا الروس ومعهم الإيرانيين.

سأنطلق من مسلمة بقاء الوضع على ما هو عليه لمناقشة مصير مناطق المعارضة من ناحية خدمية، لأن الانتخابات التركية انتهت لكن مسألة وجود السوريين لن تنتهي وستبقى حاضرة في كل سباق انتخابي قادم، أو في كل استقطاب سياسي بانتخابات وبدونها. الحكومة صرحت أن خطتها هي إعادة مليون سوري إلى المناطق الآمنة في ريفي حلب الشمالي والشرقي، وإلى محافظة إدلب لكنها سبق أن صرحت بذلك منذ أكثر من سنتين دون اتخاذ إجراءات عملية لذلك، وكل ما كان يحدث ليس أكثر من مجرد تصريحات تشبه الإبر المسكنة، لكنها لا تعالج القضية بشكل صحيح وصحي يحقق مطالب الأتراك والسوريين معاً، وبدلاً من الحديث عن كيف يمكن تحقيق العودة الطوعية كما تريد الحكومة التركية أو عودة شبه قسرية كما كانت تريد المعارضة في حال تسلمها للسلطة لماذا لا نعكس السؤال ليصبح: ماذا يريد السوريون حتى يعودوا؟

هناك ثلاثة ملفات رئيسية يمكن العمل عليها لأجل تهيئة المنطقة ولتصبح حقاً آمنة وذات بيئة جاذبة لعودة السوريين إليها، الملف الأمني والملف الاقتصادي والملف الخدمي

في نظرة سريعة إلى تركيبة السوريين الموجودين في تركيا نجد أن كتلة كبيرة منهم جاءت من مناطق تسيطر عليها المعارضة في أرياف حلب وعموم محافظة إدلب، أي إن لديهم بيوتا وأراضي وربما بعض الأملاك الأخرى وحتى الذي لا يمتلك شيئا في قريته أو مدينته لكنه يريد العودة في حال كانت البيئة مناسبة.

هناك ثلاثة ملفات رئيسية يمكن العمل عليها لأجل تهيئة المنطقة ولتصبح حقاً آمنة وذات بيئة جاذبة لعودة السوريين إليها، الملف الأمني والملف الاقتصادي والملف الخدمي. وإذا نظرنا إلى ما يجمع الملفات الثلاثة ويمنع من تحقيقها بشكل فعال هو أمر واحد رئيسي يتعلق بإدارة المنطقة الواقعة في ريفي حلب الشمالي والشرقي والممتدة من اعزاز إلى جرابلس، فالمنطقة أصبحت كأنها كانتونات معزولة بسبب تبعيتها الإدارية لأكثر من ولاية تركية، مما خلق كثيرا من المعوقات وهذا التقسيم بيئة خصبة للفساد المالي والإداري، ولا يمكن تحقيق أي تنمية دون بنية تحتية جيدة وهذه البنية التحتية بحاجة إلى إدارة محلية واحدة تتبع لها كل المجالس المحلية من اعزاز حتى جرابلس وما بينهما، أمنيا تحتاج المنطقة إلى إنهاء كل مظاهر هذا الفلتان الأمني الناتج عن تعدد الأجهزة والجهات التي تعتبر نفسها أحق من غيرها بضبط الأمن ويجب اعتماد جهاز شرطة واحد له الحق بضبط الأمن وتسليم المطلوبين إلى القضاء والذي بدوره بحاجة إلي إعطائه المزيد من المساحة ليكون هو الجهة الوحيدة المخولة بالمحاسبة والتشريع القضائي. بالملف الاقتصادي تعتبر المنطقة كنزاً ثميناً لكنه لم يكتشف بعد لأنها مستثناة من العقوبات الأميركية التي فرضت وستفرض على النظام وبسبب وجود كثافة سكانية عالية في منطقة صغيرة ولها أكثر من معبر حدودي مع تركيا، وجزء كبير من سكان المنطقة لديه مهنة يجيدها حين كان في مدينته قبل التهجير القسري، لكن قلة المدن الصناعية وضعف البنية التحتية ومشكلات كثيرة يأتي في مقدمتها منح شهادة منشأ تتيح للمصنعين تصدير بضائعهم من تركيا لبقية العالم.

يجب على المعارضة سواء بكياناتها السياسية أو منظمات المجتمع المدني مخاطبة الحكومة التركية ومصارحتها بالمشكلات التي تعيق التنمية في المنطقة، والتي في حال تحققت ستكون بيئة جاذبة للمستثمرين سواء الموجودين في سوريا أو في مدن الجنوب التركي، وحين يأتي الاستثمار والمصانع يعني أن اليد العاملة ستقوم بهجرة عكسية من تركيا إلى سوريا، لأن العامل السوري في تركيا يعمل بالحد الأدنى للأجور ومعظمهم يعمل بأقل من الحد الأدنى، أي إن أكثر من نصف راتبه يدفعه بدل إيجار منزل وفواتير شهرية وما يتبقى له لا يكفيه سوى لسد الرمق، لكنه في حال توفرت له فرصة عمل في الشمال براتب ٥٠٠٠ ليرة تركية سيعود لأن هذا الراتب في الشمال يستطيع أن يعيش به أفضل من عشرة آلاف في تركيا.

أحاديث كثيرة تدور همساً بين السوريين المطلعين على بواطن الأمور وعن الآلية التي تدار بها مناطق شمال وشرق حلب حان الوقت لأن تقال علناً وبشكل مباشر، هناك ثلاث جهات تركية لها نفوذ في سوريا هي وزارة الداخلية وجهاز المخابرات ووزارة الدفاع، والجميع يتحدث عن وجود تباينات في الرؤي بين الجهات فيما يتعلق بإدارة المنطقة، وظهر هذا الصراع -الخلاف خلال محاولة الجولاني الاعتداء على ريف حلب الشمالي والسيطرة على مدينة اعزاز، وإذا كان هناك طرف تركي لا يمانع من وصول الجولاني للمنطقة فيجب على المسؤولين في المعارضة السورية وكياناتها المختلفة تبيين خطورة الأمر على السوريين والأتراك معاً، لأن المنطقة مستثناة من العقوبات وفي حال دخلها الجولاني ستزداد معاناتها بسبب تصنيفه وجماعته كمنظمة إرهابية.

إنشاء مجمع سكني هنا وآخر هناك لا يمكن أن يجذب أي عائلة لأن البيئة الآمنة بحاجة إلى مقومات، وهذه المقومات بحاجة إلى قرار حاسم وواضح للبدء بتحويل هذه المنطقة إلى خلية عمل لا تهدأ

إيجاد إدارة محلية واحدة وجهة أمنية وجهاز قضائي قوي سيكون لبنة أولى في مشروع العودة التي ينتظرها كثير من السوريين، وتحسين البنية التحتية عبر تعبيد الطرق الرئيسية والتي تربط المدن الكبرى وإنشاء مدن صناعية في كل مدينة سيساهم في عودة نصف مليون سوري على الأقل سيضافون إلى النصف مليون الذي أعلنت الحكومة التركية عن عودتهم سابقا، وهنا يتحقق مشروع عودة المليون سوري.

أما إنشاء مجمع سكني هنا وآخر هناك فلا يمكن أن يجذب أي عائلة لأن البيئة الآمنة بحاجة إلى مقومات، وهذه المقومات بحاجة إلى قرار حاسم وواضح للبدء بتحويل هذه المنطقة إلى خلية عمل لا تهدأ، وربما تصبح لاحقا مركزاً صناعياً وتجارياً هاماً بسبب الكلفة الإنتاجية المنخفضة جداً، الوضع لا يطاق في الداخل والناس محتقنة نتيجة هذه الظروف الأمنية والاقتصادية الصعبة والعلاج بالمسكنات لم يعد مجدياً وبات بحاجة إلى عمل جراحي عاجل.