كيف صارت هذه الــ "بيروت" تشبهنا

2020.08.05 | 11:32 دمشق

2020-08-05t065512z_855108614_rc2i7i9u9ktl_rtrmadp_3_lebanon-security-blast_-_copy.jpg
+A
حجم الخط
-A

مع ورود أول خبر عن دوي انفجار ضخم سمعه سكان بيروت، تواصلت مع صديق في عين المكان.. لم يجبني، لاحقا توالت الأنباء كسيل من  صور صادمة مفجعة، ومقاطع مصورة لا تشي بخير. رسالة من الصديق في بيروت فتحتها لأجد مقطعا مصورا لم أره ضمن ما ورد إلى الشاشات، يظهر انفجارا هائلا انطلق من قلب حريق صغير يعصف بالمدينة كأنه يبتلعها، سألته: أبيروت؟ أجاب: بل ما كان اسمه بيروت. أضاف: لم يعد ثمة شيء اسمه بيروت لقد دمرت المدينة يا صاح. وغابت خلف الصور.

ربما من الصعب أن يصدق المرء أن تغيب مدينة أو تتغير ملامحها بالكامل خلال ثوانٍ، معدوادات لكن ما كان يصل من صور لبيروت يجعل التصديق أمرا حقاً. بل ساعتين من المتابعة المباشرة بعد الانفجار يجعلك تسأل كل أسئلة ما بعد التصديق، حتى إن ظهور محافظ بيروت ليعلن المدينة منكوبة لم يضف شيئا على المشهد، حتى لم يؤثر بذهولنا. هو قال أيضا إن الانفجار مشابه لما حدث في اليابان في هيروشيما وناغازاكي. وهذا يبدو منطقيا من هول المنظر. فماذا حدث؟ كيف صار كل هذا؟

ونحن كسوريين دمشقنا مسلوبة فلا نعرف سوى بيروت مدينة النور، مدينتا المنورة التي هاجرنا إليها دوما هربا من  ظلم ذوي القربى، ومن جور الحياة بحثا عن ذواتنا حينا وعن حريتنا أحيانا

تعددت الروايات وكثرت، والمشهد واحد، كما تعددت وكثرت المدن قبلاً وبيروت واحدة. واحدة كمدينة تشكل في ذاكرة الكل ندبة لطيفة، يعرفها الجميع ويحبها الجميع ونحن كسوريين دمشقنا مسلوبة فلا نعرف سوى بيروت مدينة النور، مدينتا المنورة التي هاجرنا إليها دوما هربا من  ظلم ذوي القربى، ومن جور الحياة بحثا عن ذواتنا حينا وعن حريتنا أحيانا وطمعا بلذة الحياة دائما، بيروت الجميلة التي لم تكن تشبهنا ولم نكن نتمنى أن تشبه مدننا لكنها كذلك الآن.

أطالع الصور كأنها تلتهمني ألما، فأرى فيها حلب وحمص ودير الزور والرقة ومدن غوطة دمشق ودرعا وإدلب وقد مرت عليها قوات الأسد وروسيا وإيران وميليشياتها وحزب الله، كم أصبحت بيروت تشبهنا وقد أطيح ببهائها بفعل فاعل ربما لم يفجر صاعقا أو قنبلة، إنما ترك آلاف الأطنان من المواد القابلة للتفجير مهملة في ركن بقلب المدينة جوار أكثر بقعة حيوية في قلب الميناء الذي يصل لبنان بالعالم. وربما نجد فاعلا ما أقدم على هذا كله أو تسبب به من حيث يدري، وربما من حيث لا يدري لكن هل هذا كله إهمال فقط؟ بل هو انهيار تام وتكثيف لجملة الأزمات التي تعصف بلبنان، كما عصف الانفجار ببيروت، تكثيف أحال لبنان إلى هيكل عظمي وعرى بيروت من وجهها البحري الباسم، وفي هذا ثمة مسبب واضح لا تخطئه عين، إنه حزب الله ومن اختار حلفه من كل الأطياف السياسية والملل والنحل، هؤلاء جميعا مسؤولون، هم باعوا لبنان وأدخلوه في هلال إيران الذي يعصف به الانفجار منذ زمن ليأتي انفجار بيروت تتويجا للمأساة.

مأساة بيروت لم تبدأ اليوم في 4 من آب 2020 بل منذ سنوات، وتشكلت منذ شهور على هيئة أزمة نفايات مهينة وأزمات اقتصادية خانقة وضياع أموال الشعب وتردٍ بالأوضاع السياسية

مأساة بيروت لم تبدأ اليوم في 4 من آب 2020 بل منذ سنوات، وتشكلت منذ شهور على هيئة أزمة نفايات مهينة وأزمات اقتصادية خانقة وضياع أموال الشعب وتردٍ بالأوضاع السياسية وانقطاع للكهرباء والخدمات وهجرة للناس ونفور من المحيط العربي والأصدقاء الغربيين وارتهان لمشاريع خارجية فتصعيد مع العدو الإسرائيلي فانهيار بالسلطة الحاكمة.. مأساة بيروت ليست الانفجار فحسب بل من تسبب به وهيأ له فحصل وكشف العورات فلا مشاف في بيروت ولا كهرباء ولا طواقم إنقاذ ولا رواية رسمية عن الحدث الجلل في ظل حكم عهد لم يستطع أن يقدم تفسيرا منطقيا لما حصل لم يستطع أن يعتذر ولم يستطع أن يستقيل ويواجه عجزه.. فكيف سيجيب غدا عندما تكثر الأسئلة عن صاحب المادة التي انفجرت ومن سكت عن تخزينها في مرفق حيوي -الميناء- ولماذا وكيف؟ وهل مصادفة كان الانفجار قبل يوم الجمعة في 7 من آب يوم يصدر القضاة في  المحكمة الخاصة بلبنان حكمهم في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري وبعد يوم من استقالة وزير الخارجية وتنبيهه بأن الدولة ذاهبة للفشل؟ وأسئلة عن الحساب والعقاب وعن أيام عجاف قادمات.

سقطت بيروت يوما قبل أكثر من ربع قرن لكن على يد محتل، وها هي تسقط اليوم على يد عصابة جربت في شباط 2008 وأيار 2008 الاحتلال ونجحت التجربة فتغولت إلى أن أدخلت لبنان في أتون حرب الأسد وإيران في سوريا لتسقط علاقتها تماما مع الدولة في لبنان وتقيم دولتها وترسخ حكمها في لبنان وتساهم عن سابق إصرار وقصد في الحرب على السوريين وتتشي بدمار المدن السورية التي أحيلت ركاما لأجل رفع رايات فوق مآذن المساجد ومع كل هذا الركام الممتد من جراحنا إلى الأبد والذي أصبح جزءا من وجوهنا وصورنا وهويتنا ما كنا نريد لبيروت أن تشبهنا، فكيف صارت هذه الــ "بيروت" تشبهنا.