كيف صارت سوريا فقيرة ولبنان مفلساً وإيران مخنوقة؟

2020.05.10 | 00:02 دمشق

1504018560-crop.jpg
+A
حجم الخط
-A

في أواخر الثمانينات، كان السائر في شوارع دمشق لا بد وأن يصادف أولئك الشبان يتمتمون كلمات: وينستون، مارلبورو، كِنت.. بإيقاع رتيب، مرتدين الجاكيت العسكرية الخضراء، المنتفخة بعلب السجائر. وهناك أيضاً عند مداخل العمارات، كان يقف رجال آخرون بيدهم رزمة من المال، دلالة على أنهم صرّافو عملات أجنبية. وإذا راقبت المشهد بكليته، سترى حوالي المكان وعند المفارق الدوريات السرية لرجال المخابرات، الذين لا تخطئهم العين العارفة، والذين يديرون اللعبة كلها ويحمونها.

كان هذا كله يحدث، فيما "الدولة السورية" تحظر استيراد السجائر الأجنبية، وتضع الصرّافين الشرعيين في السجون.

وكان يحدث أن لا خبز لائقاً في الأسواق، لا موز ولا محارم ورقية ولا زبدة أو سمن أو سكر متوفراً، إلا في السوق السوداء وعبر التهريب. والكلمة الأخيرة هي المفتاح السحري.

والمعلوم في تلك الحقبة، أن العائلات كانت أحياناً تجمع مدخراتها أو حتى تبيع أرضاً لدفع رشوة تضمن عمل ابنها الضابط في الجيش أو المخابرات أو الجمارك، كي يتم تعيينه عند الحدود مع لبنان أو أن يخدم فيه. فقد كان هذا تذكرة دخول إلى جنة التهريب أو انضماماً إلى صفوة "التشبيح" والنهب والسطو الذي كان تمارسه عصبة النظام في ذاك البلد امتداداً إلى داخل سوريا نفسها.

عبر تلك الحدود كان التهريب لكل شيء: السيارات الفخمة المسروقة على رأس اللائحة، كل ما يتصل بالالكترونيات والأدوات الكهربائية المستوردة، الخبز الطازج، الموز خصوصاً، الأجبان الأجنبية، الويسكي والفودكا والنبيذ الفرنسي، كل أنواع السجائر.. لائحة طويلة من كل المواد الاستهلاكية والكماليات.

على هذا، كان هناك اقتصادان في سوريا. الأول، الشرعي "الاشتراكي" المتقشف الذي بالكاد يرفد الخزينة بالعملة الصعبة، بل ويستنزفها. والثاني، السوق السوداء المزدهرة التي تمتص الثروات السرية وتكدسها خارج المنظومة المالية للدولة وخزينتها.

وتساوق اقتصاد التهريب هذا، مع منظومة كبيرة، تحت إشراف النظام السوري ومخابراته، لزراعة حشيشة الكيف والأفيون في سهل البقاع اللبناني، وتصنيع المخدرات وتهريبها، كانت توفر دخلاً في ذاك الوقت للنظام السوري من العملة الصعبة، كان شديد الحاجة إليها للصمود أمام الحصار السياسي والاقتصادي الذي فرضه الغرب على حافظ الأسد آنذاك.

على مثال تلك الحقبة، يعمل الاقتصاد الإيراني اليوم، تحت وطأة العقوبات والحصار. ويعمد النظام الإيراني إلى إدارة موارده وتجاراته استيراداً وتصديراً وفق نظام التهريب، نفطاً ومنتوجات زراعية وصناعية، وتبييض أموال، وسيطرة جزئية على شبكة تهريب المخدرات الأفغانية. فمقارعة "الشيطان الأكبر" وتمويل حروب المنطقة يحتاج إلى عملة ذاك "الشيطان".

كان الأمر نفسه يفعله نظام صدّام حسين ما بين 1991 و2003. فيما نظام كوريا الشمالية هو الأكثر "عراقة" وتجذراً في هذا النمط من الاقتصاد الأسود، وقد بات معتمداً بتفاوت في دول مارقة كفنزويلا وسوريا حالياً.

وميزة هذا الاقتصاد الأولى، عدا عن خروجه من النظام الاقتصادي العالمي، أنه شديد الفساد والمافياوية، ويسرع عملية إفقار السكان وحرمانهم من أبسط شروط العيش اللائق، ويدمر ميزانية الدولة والعملة الوطنية، ويحيل الثروات المالية إلى أموال غير شرعية، ويركز فوائده ومكتسباته فقط بيد النظام وحاشيته. ولذا، كان بديهياً أن نرى التلازم بين تفاقم الفقر وانهيار الطبقة الوسطى من جهة، والتضخم الخرافي لثروات بطانة النظام والأسرة الحاكمة، من جهة ثانية.

وفي الأصل، تعمد هذه الأنظمة إلى سياسة المروق وتحدي المجتمع الدولي والانخراط في الحروب. وثمن هذا اقتصادياً العزلة والفقر والحصار والجوع. فتبرر الأنظمة لشعوبها واقع إدقاعها وسوء حالها أن هذا مرجعه "المؤامرة" الخارجية و"الاستكبار" الامبريالي.. متنصلة من مسؤوليتها ومن تبعات سياساتها.

في هذه الأثناء، ينضم لبنان أكثر فأكثر إلى المنظومة الاقتصادية عينها التي نراها في إيران وفنزويلا وسوريا وكوريا الشمالية: منظومة الممانعة واقتصاد التهريب.

في 15 سنة الماضية، وبخطوات وقفزات متوالية، هيمن "حزب الله" على لبنان، وفرض توجهات سياسية معادية للعالم العربي والمجتمع الدولي. وعمد شيئاً فشيئاً إلى محو الفواصل بينه وبين الدولة، إلى حد التداخل والتناغم، خصوصاً أنه بات شريكاً أساسياً في السلطة. بل هو الشريك الأقوى والسيّد.

ومع توالي العقوبات الأميركية عليه، والرقابة الفيديرالية اللصيقة للنظام المالي والمصرفي اللبناني، بدأ الاقتصاد اللبناني بالاختناق، الذي أصبح يعاني من قطيعة عربية ودولية، ومن تبعات العقوبات التي تستهدف ذاك الحزب وتتفشى تداعياتها في الجسم الاقتصادي والمصرفي على نحو بالغ الأذى.

وأفضت شراكة حزب الله في المقتلة السورية إلى جانب بشار الأسد، إلى تورط لبنان في ما قد نسميه "اقتصاد الحرب السورية". فحزب الله الذي يسيطر على مجمل الحدود، يدير المعابر غير الشرعية، عدا عن هيمنته على المطار والمرافئ البحرية. ومن هذه المعابر البرية والجوية والبحرية، وباستثمار قدرة لبنان على الاستيراد والتصدير وارتباط نظامه المالي بالنظام المصرفي العالمي وحرية تداول الدولار والتحويلات المالية.. ربط حزب الله كل هذا بمقتضيات الحرب السورية وحاجات النظام خصوصاً المحروقات والدولار الورقي (البنكنوت).

هكذا، دخل لبنان على نطاق واسع في اقتصاد التهريب، الذي يستنزف احتياطات العملة الصعبة، ويخرب ميزانية الدولة ويحرمها من السيطرة على العائدات ويضعف العملة الوطنية، ويوسع من نطاق السوق السوداء ويجذر الفساد أكثر.

إن مشهد دمشق البائس في أواخر الثمانينات والأبأس الآن، وبغداد منتصف التسعينات، وطهران منذ عقد، وبيونغ يانغ منذ دهر، وكاراكاس منذ 15 عاماً وبيروت اليوم.. هو مشهد اقتصاد الممانعة: مزيج من اللصوصية والإجرام والفساد والفقر المدقع واليأس والخراب... والحسابات السرية بمليارات الدولارات المنهوبة والمهرّبة.

كلمات مفتاحية