يشهد العالم تغيرات جيوسياسية متسارعة تؤثر على الشرق الأوسط، وعلى سوريا بشكل مباشر، فبعد وصول إدارة أميركية جديدة معادية لإيران، والتي سبقها حرب مازالت مستمرة منذ عام ونيف على أذرعها، وقبلها الانفتاح العربي على نظام الأسد لإبعاد إيران عن سوريا، تطرح تساؤلات عديدة حول مستقبل سوريا في ظل المتغيرات الحالية.
التحالفات الدولية الإقليمية:
شهد العالم صعود أدوار جديدة لبعض القوى الإقليمية، وتحالفات تكتيكية لا يمكن أن ترقى لتكون تحالفات استراتيجية، بين بعض دول المنطقة وبين دول كبرى، مثل التحالف الإيراني الروسي، والعلاقات الروسية/الصينية مع السعودية.
فبعد ضغوط الإدارة الديمقراطية الراحلة على السعودية، سعت المملكة إلى تنويع علاقاتها مع دول العالم المختلفة، فوقعت اتفاقيات مع الصين للتعاون في المجال الاقتصادي والدفاعي والتكنولوجي، ثم توسطت الصين بين إيران والسعودية، وأعيدت العلاقات الدبلوماسية بينهما بعد سنوات من القطيعة والتوترات. لم تكن العلاقات بين المملكة والصين وليدة اليوم، بل لها تاريخ طويل، لكن الجديد في العلاقة بينهما في الأربع سنوات الماضية من عمر الإدارة الديمقراطية، بعدها العسكري.
وفي الحرب الروسية الأوكرانية، اتخذت السعودية موقفا ديبلوماسيا متوازنا منها، فدعت إلى الحوار والحلول الديبلوماسية السلمية لإنهاء النزاع، مع تأكيدها على أهمية احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وقامت بتقديم مساعدات إنسانية لدعم الشعب الأوكراني.
وعندما قصفت إسرائيل إيران دانت الخارجية السعودية في بيان "الاستهداف العسكري" الإسرائيلي الذي تعرضت له إيران، وقالت إنه "يعد انتهاكا لسيادة إيران، ومخالفة للقوانين والأعراف الدولية"، أي أن السعودية لم تجعل نفسها طرفا بالصراع بين إسرائيل وإيران، ونفس الشيء بالنسبة للحوثي، فقد رفضت المشاركة في حلف "حارس الازدهار" الذي شكلته أميركا لحماية حركة التجارة في البحر الأحمر من الهجمات التي تشنها جماعة الحوثي من اليمن.
كما أعلن وزير الخارجية السعودي خلال اجتماع وزاري في نيويورك (سبتمبر 2024)، عن إطلاق تحالف دولي لدعم إقامة الدولة الفلسطينية، وتنفيذ حل الدولتين واستضافت المملكة العربية السعودية عدة اجتماعات عربية وإسلامية وأوروبية لمناقشة الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، وتعزيز التعاون الدولي لإيجاد حل دائم ومستدام للقضية الفلسطينية.
استشعرت الإدارة الأميركية الخطر من هذا الحراك الديبلوماسي، والتحالفات التي بدأت تنسجها السعودية، وحاولت أن تلتف عليه بتقديم المغريات، وتغيير خطابها، فنسجت مع دول الخليج مشروع الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، والذي أُعلن عنه خلال قمة مجموعة العشرين في نيودلهي في أيلول/سبتمبر 2023 للالتفاف على مشروع الحزام والطريق الصيني.
فهل هي علاقات مؤقتة نكاية بالحزب الديمقراطي، أم تأسيس سعودي لتنوع في شراكاتها مع الدول الأخرى، وتحقيق استقلالية أكبر في سياساتها الخارجية، هذا ما سوف يتبين خلال السنوات القليلة القادمة مع الإدارة الجمهورية القادمة لحكم أميركا.
تستمر إيران وروسيا بالدخول إلى العمق الأفريقي عبر السودان، وإثيوبيا، في شرقي أفريقيا، ومن ثم ليبيا، ومن ثم دول وسط أفريقيا (مالي، بوركينا فاسو والنيجر) بعد أن طردت النفوذ الفرنسي والأميركي منها، وصولا إلى الساحل الغربي والتحالف الإيراني مع جبهة البوليساريو الناشطة في الصحراء الغربية في المغرب العربي.
الدعم الإيراني الذي قدم إلى روسيا في حربها على أوكرانيا، ونشاطها في أفريقيا، وتجاوز حدودها في التخادم مع إسرائيل، جعل الدول الأوروبية التي كانت تقف بجانبها ضد قرار ترمب بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران في أيار/مايو 2018 تغير موقفها، وأسهمت في إصدار قرار عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية ينتقد إيران بسبب عدم تعاونها الكافي مع الوكالة فيما يتعلق ببرنامجها النووي.
الانعكاس على الإقليم وسوريا:
كل هذا الحراك الدولي والتنافس الدولي، وخسارة إيران للدعم الأوروبي، واستنزاف مقدراتها في محاولة توسيع نفوذها بالخارج على حساب تقوية الداخل، سهل على القوى المعادية لها الوصول إلى العمق، وتنفيذ ضربات مؤلمة لها، بالإضافة إلى زيادة الاحتقان الداخلي، وتدهور الاقتصاد، مما سيدفعها إلى التفاوض مع أميركا، والعودة إلى داخل حدودها، والمحافظة على نظامها كأولوية قصوى لها، ثم محاولة الحفاظ ما أمكن على ما تبقى من أذرعها بالخارج، وهذا ما نراه في الاتفاقية التي قبل بتنفيذها حزب الله بعد حرب شرسة شنها نتنياهو عليه، مخافة القضاء النهائي على الحزب.
الضغوط الأميركية الاقتصادية المتوقعة على إيران، واستمرار استهداف مصادر تمويل ميليشياتها، وحصارها، خصوصا ميليشيا حزب الله، سينعكس على اقتصاد نظام الأسد بشكل أكبر، فالشبكات الاقتصادية التي أنشأتها إيران وميليشياتها، ورجال الأعمال الذين خلقتهم لدعم نشاطها ووجودها، وخطوط التهريب التي تؤمن للنظام بعض احتياجاته، سواء أكانت منتجات، أو دولارا، سيضعفون بشكل كبير، وسيتأثر النظام بهذا الضعف، لكن الانعكاس الأكبر سيكون على المواطنين الضعفاء، وستزداد النقمة على النظام.
من جهتها، تحاول تركيا الحفاظ على مصالحها وأمنها القومي – حسب وجهة نظر نظامها – ولن تتخلى بالتأكيد عن مكاسبها في الشمال السوري، وتضغط للحصول على ضمانات عند حدودها الجنوبية، وترسل إشارات متناقضة، فتارة تعلن الرغبة بالمصالحة مع نظام الأسد، وتؤكد أنها لا تريد تغييره أو اقتطاع جزء من أراضيه كما صرح وزير الخارجية التركي "فيدان" منذ أيام، وتارة أخرى تهاجم النظام وتهدده.
كذلك يستمر العرب في تقاربهم مع نظام الأسد، لمواجهة النفوذ الإيراني بسوريا، وتقليص التوترات في المنطقة، ومن أجل هذا يضغطون على النظام لحل القضية السورية وفق قرارات الأمم المتحدة، ولإيقاف تهريب المخدرات، والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب، وإيجاد بيئة مناسبة لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم، لكن النظام لا يستجيب لمطالبهم.
المسعى التركي/العربي لمنافسة النفوذ الإيراني بسوريا، وملء الفراغ المتوقع إن انسحبت إيران من سوريا، بسبب الضغوط الإسرائيلية الحالية، والضغوط الأميركية المتوقعة مستقبلا مع إدارة ترمب، يلقى ممانعة إيرانية/روسية/أسدية، ولا يتوقع في المدى المنظور أن يحصل هذا الانسحاب الإيراني، فوجودها في سوريا استراتيجي، ولا يمكن أن تتنازل عنه في المدى المنظور، لكنها تحاول التكيف مع الضغوط عبر تغييرات تكتيكية، وإعادة انتشار لقواتها، كما رأينا في الاستهداف الإسرائيلي لموقع إيراني في تدمر، وهو خارج المألوف، فلم يعرف أن لإيران وجودا معروفا في تدمر.
هل يمكن توقع المستقبل؟
بالتأكيد يمكن أن نستشرف، ونضع سيناريوهات مختلفة، لكننا لا نستطيع التوقع بشكل مطلق، وقد يحصل أحد السيناريوهات المتوقعة، أو يحصل سيناريو آخر مختلف خارج عن السياق والمتوقع، لهذا فإن درجة التعقيد في الملف السوري، والتدخلات الإقليمية والدولية، تجعل من العسير التنبؤ بالمستقبل، لكن يمكن أن نضع مؤشرات يمكن البناء عليها، فالضغوط على إيران تدفعها إلى تقليص وجودها، وسينعكس هذا ضعفا على نظام الأسد، وغرق روسيا في الملف الأوكراني، يؤدي إلى نفس النتيجة، لكن قد يتم التوصل في عهد ترمب إلى اتفاقية نووية مع إيران، وقد يستطيع ترمب إيقاف الحرب الأوكرانية الروسية، وبالتالي ستخف التوترات، بالإضافة لتأثير الأزمات الاقتصادية التي تعصف بالعالم، وبهذه الدول المتدخلة بسوريا، على إمكانية استمرار هذه الدول في دعم النظام، وبالتالي يمكن الوصول إلى حلول للملف السوري، ويمكن أن يحدث العكس، وتتعقد الأمور بشكل أكبر.
في جميع السيناريوهات، نحن خارج اللعبة بأيدينا، وقد تنتهي بتحقيق مصالح الجميع على حساب الشعب السوري، وتضحياته، وهذا يتطلب من القوى السورية الوطنية الديمقراطية أن تتعلم من تجاربها، وتبتعد عن تكرار أخطائها، والارتهان للقوى الإقليمية والدولية المختلفة، وأن تنتظم في تحالفات سياسية تجمع بين السوريين، وتوحد كلمتهم على أساس برامج سياسية وطنية ديمقراطية، يستبعد منها من فشل، وكان سببا من أسباب دمار الثورة، كما في حالة بعض القوى التي استثمرت في ما قبل الحالة الوطنية (الدين والمذهب والقومية)، وهذا لا يعتبر إقصاء أو شقا للصف كما قد تروج هذه القوى من أجل المحافظة على مصالحها، بل هو تنظيف للثورة من العلقات التي مصت دمها، وإبعاد الفاشلين عن قيادتها كما في أي نظام ديمقراطي طبيعي.