كيف تمكن ترمب أن ينهك الليرة التركية بتغريدة واحدة؟

2018.08.13 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

دخلت إلى محل السمان السوري، قرب سكني في غازي عنتاب، وطلبت منه إحدى السلع التي اعتدت شراءها من عنده. فقال بوجه عابس: "توقفنا عن التعامل مع هذه السلعة". سألته عن السبب، فقال إن المنتج رفع السعر مع تخفيض وزن الوحدة، وأنه يخجل من مواجهة زبائنه بالسعر الجديد! كذا ارتفع سعر ربطة الخبز السوري في تركيا مع إنقاص عدد الأرغفة. وعموماً شهدت الأسواق التركية تضخماً سريعاً في الأسابيع القليلة الماضية، بما جعل المنتجين والتجار والمستهلكين جميعاً يشكون تردي الأحوال.

لكن يوم الجمعة 10 آب شهد صدمة غير مسبوقة منذ سنوات طويلة، حين ارتفع سعر صرف الدولار أمام الليرة التركية ارتفاعاً صاروخياً، خلال ساعات قليلة، فوصل إلى 6.80 ليرة للدولار الواحد. صحيح أنه عاد إلى الانخفاض قليلاً في الساعات التالية، لكنه ظل مرتفعاً جداً بالقياس إلى اليوم السابق حين كان 5.30.

وقد ربط المراقبون بين هذا التدهور في قيمة الليرة التركية وتغريدة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي أعلن فيها عن رفع الرسوم الجمركية على واردات بلاده من الفولاذ والألمنيوم التركيين بمعدل 100%. وأضاف ترمب قائلاً إن علاقات بلاده بتركيا هي في حالة سيئة الآن.

والسبب المباشر المعلن لهذا القرار، كما لعقوبات اقتصادية فرضتها واشنطن على تركيا، يعود إلى قضية القس الإنجيلي أندرو برونسون الموقوف في تركيا، تحت الإقامة الجبرية، ويحاكم أمام إحدى محاكم إزمير بتهم خطيرة كالإرهاب والتجسس. وإذا كانت واشنطن ردت على امتناع تركيا عن إطلاق سراح برونسون بفرض عقوبات على وزيري العدل والداخلية التركيين، فالقرار الخاص باستيراد الفولاذ والألمنيوم جاء بعد فشل جهود وفد تركي قام بزيارة واشنطن لحل الأزمة بين البلدين بالطرق الدبلوماسية.

قرأت اليوم معلومات جديدة حول أصل قصة القس برونسون، جديرة باطلاع القراء عليها.

في السابع من شهر تشرين الأول 2016 وجد القس برونسون وزوجته، على باب بيتهما في إزمير، تبليغاً يطلب منهما الحضور إلى مخفر الشرطة في منطقة سكنهم. كان الزوجان برونسون عائدين من نزهة على الأقدام، ومعهما حقيبتا ظهرهما.

في السابع من شهر تشرين الأول 2016 وجد القس برونسون وزوجته، على باب بيتهما في إزمير، تبليغاً يطلب منهما الحضور إلى مخفر الشرطة في منطقة سكنهم. كان الزوجان برونسون عائدين من نزهة على الأقدام، ومعهما حقيبتا ظهرهما. اتجها فوراً إلى المخفر حيث تبلغا بقرار ترحيلهما إلى الولايات المتحدة، وفقاً لأحد بنود قانون الهجرة والحماية المؤقتة الذي كان قد أقر في البرلمان منذ فترة قصيرة. اتصل برونسون بالمحامي تانر كلج المهتم بقضايا اللاجئين، طالباً منه الحضور عاجلاً إلى المخفر.

المحامي كلج يرأس، إلى جانب عمله، جمعية تهتم بشؤون اللاجئين، كما يرأس الفرع التركي لمنظمة العفو الدولية. إضافة إلى ذلك هو من الخبراء الذين استعانت الحكومة التركية بمشورتهم أثناء وضع قانون الهجرة المشار إليه. جرى بين الرجلين حديث استغرق 5 دقائق، شرح فيها المحامي للزوجين برونسون الخيارات المتاحة أمامهما، وهي إما الانصياع إلى قرار الترحيل، أو تقديم اعتراض على القرار والبقاء في الحجز لمدة أسبوعين إلى حين صدور القرار النهائي. تمسك الزوجان برونسون بالبقاء في تركيا التي عاشا فيها طوال العشرين سنة الماضية، ويدرس أولادهما في مدارسها، متحملين في سبيل ذلك البقاء في الحجز في مركز الترحيل. تم تقديم الاعتراض، وأطلق سراح الزوجة بعد 12 يوماً في الحجز، وبقي القس.

ثم حدث شيء ما، غيّر حياة برونسون تغييراً تراجيدياً. فقد تعرض لاستجواب جنائي، وتم تحويله إلى القضاء بناء على شهادات شهود "سريين" وعلى محتويات فلاشة ذاكرة كانت بحوزته حين جاء طوعاً إلى مخفر الشرطة. ولم تصدر لائحة اتهام بحقه، إلا بعد انقضاء سنة ونصف على احتجازه، تضمنت اتهامات خطيرة بشأن علاقات عضوية مفترضة تربطه بكل من حزب العمال الكردستاني وجماعة فتح الله غولن، إضافة إلى تسريب معلومات استخبارية إلى دولة أجنبية.

أما فيما خص علاقته المفترضة بالعمال الكردستاني، فهي تعود إلى زيارة 3 من كرد سوريا لكنيسته في إزمير، طالبين اعتناق الدين المسيحي. وأما علاقته المفترضة مع جماعة غولن فمردها علاقة شخصية مع أحد أئمة الجوامع في إزمير، اتهم، بعد المحاولة الانقلابية، بالانتماء إلى جماعة غولن، فتوارى عن الأنظار منذ ذلك الحين. وثالثة الأثافي هي الاتهام بالتجسس بناء على وشاية شخص عمل مع برونسون على دراسة استقصائية عن شبكة محطات بيع الوقود في تركيا، بناء على طلب شركات نفط بريطانية مولت الدراسة بهدف بحث ممكنات دخول السوق التركية في مجال البيع بالمفرق. هذه الدراسة كانت محفوظة على الفلاشة التي حملها القس معه حين لبى استدعاء مخفر حيه في إزمير برفقة زوجته. السؤال البديهي الذي يخطر في البال: هل يعقل لجاسوس أن يحمل معه دليل إدانته إلى مخفر الشرطة؟

إلى هذا الحد تبدو سوريالية هذه الحالة الغريبة. لنتخيل للحظة واحدة لو أن الزوجين برونسون انصاعا لقرار الترحيل وعادا إلى الولايات المتحدة بلا إبطاء. لكانت تركيا اليوم بغنى عن تغريدة ترمب التي أجهزت على قيمة الليرة التركية، فارتفعت الأسعار بصورة جنونية واضطربت الدورة الاقتصادية المألوفة، وارتفعت شكاوى المواطنين من موجة الغلاء العاتية.

سيقول قائل، بحق، إن قضية القس الإنجيلي ليست سوى ذريعة استخدمها ترمب ضد تركيا. وهذا صحيح. لكن صحته لا تغني عن طرح السؤال الحارق: لماذا تمنح تركيا ترمب ذريعة كان يمكن تجنبها، خاصةً وأن الاتهامات الموجهة للرجل واضحة الكيدية ولا يمكن تصديقها.

بل هناك المزيد: ما الذي حدث للمحامي والناشط في مجال حقوق الإنسان تانر كلج؟

لقد تم توقيف كلج، وعدد من زملائه، في قضية عرفت باسم "بيوك آضة" وهي جزيرة سياحية شهدت اجتماعاً للفرع التركي لمنظمة العفو الدولية. فقد داهمت الشرطة الاجتماع واعتقلت كل الحاضرين بتهمة التجسس.

لقد تم توقيف كلج، وعدد من زملائه، في قضية عرفت باسم "بيوك آضة" وهي جزيرة سياحية شهدت اجتماعاً للفرع التركي لمنظمة العفو الدولية. فقد داهمت الشرطة الاجتماع واعتقلت كل الحاضرين بتهمة التجسس. وبعد محاكمتهم، أخلي سبيل المتهمين بالمشاركة في ذلك الاجتماع، بمن فيهم تانر كلج نفسه. لكن مفاجأةً صادمة كانت بانتظار المحامي على باب السجن الذي احتجز فيه طوال فترة محاكمته. فقد أعيد توقيفه، مجدداً، وهذه المرة بتهمة علاقته بالقس برونسون!

لنلاحظ: أحد الاتهامات الموجهة لبرونسون هي علاقته بالمحامي تانر كلج الذي برأته المحكمة من تهمة التجسس، ودليل العلاقة هو الاتصال الهاتفي الذي أجراه برونسون من المخفر، حيث لم تكن بين الرجلين أي معرفة سابقة. ومن جهة مقابلة، أحد الاتهامات الموجهة لتانر كلج هي علاقته بالقس برونسون! هذه العلاقة بين الرجلين استخدمها الادعاء دليلاً، إلى جانب محتويات فلاشة برونسون، على التجسس!

حقاً، ليست قضية برونسون إلا ذريعة قدمتها تركيا، بحماقة قضائية، لترمب الذي يعمل على "تأديب" كل من لا ينصاع لإرادته. وكما ضربت العقوبات التي فرضها على إيران وروسيا اقتصادي البلدين، يخشى الأتراك أن تكون دولتهم هي الثالثة، مع ملاحظة أن الدول الثلاث المذكورة تربطها علاقة تحالف تكتيكي فيما يسمى بـ"ثلاثي أستانا" الممسك بالملف السوري!

أخيراً، بالعودة إلى عنوان المقالة، وفي محاولة للإجابة على السؤال المتضمن فيه: ما كان لتغريدة ترمب أن تؤدي إلى هذه التداعيات الخطيرة على قيمة الليرة التركية، لولا المشكلات الحقيقية التي يعاني منها الاقتصاد التركي قبل ذلك. وهي مشكلات تتعلق بإنفاق حكومي غير منضبط، أدى إلى تفاقم المديونية الخارجية وعجز في الميزان التجاري واستهلاك احتياطي المصرف المركزي من العملات الصعبة، وغيرها من وجوه سوء الإدارة.