كيف تكون قامة سورية باسقة؟

2021.04.21 | 06:25 دمشق

4201611124952441.jpg
+A
حجم الخط
-A

قبل أيام نشرت جريدة القدس العربي مقالا للروائية الكبيرة غادة السمان تتحدث فيه عن الراحلة نوال السعدواي، وكعادة السمان فهي كتبت عن نفسها أكثر مما كتبت عن السعداوي، واعتبرت أن نضال السعدواي من أجل حقوق المرأة كان سببه الوحيد، هو التمييز الذي شعرت به في بيت عائلتها، إذ كانت أسرتها تفضل الذكور على إناث العائلة، بينما كما ذكرت السمان، هي لم تعان من هذا في طفولتها فأسرتها كانت تساوي بين الذكر والأنثى، وذكرت غادة السمان أيضا أنها لم تسمع بما يسمى ختان النساء إلا من نوال السعدواي، وقارنت بين نضال السعداوي التي رغبت أن تشاركها السمان في حركة نسائية عربية، كما ذكرت، وبين مسعاها هي لتحرير الرجل، معتبرة أن السعدواي، وإن كانت تستحق نوبل لنضالها من أجل المرأة إلا أنها لم تكن روائية مهمة (وهذا رأي له علاقة بالذائقة الأدبية لا يجوز نقده)، ثمة في المقال ما رآه كثر _وأنا منهم_ استعلاء طبقيا من غادة السمان ابنة الأسرة البرجوازية الدمشقية على نوال السعدواي ابنة الأسرة الريفية المصرية، مثلما فيه استعلاء عنصري (جمالي) يتعلق بالشكل ومفهوم الجمال، حيث تحدثت السمان مرتين عن زينتها مقابل السعداوي التي لم تكن تهتم بتبرجها، وفيه أيضا استعلاء أدبي، أما الطامة الكبرى فهي اعترافها بأنها لم تسمع بختان النساء قبل نوال السعدواي، وكأنها لا تعرف شيئا عن تاريخ العرب مع النساء، ولم تقرأ عن هذه العادة المنتشرة في كثير من بلدان أفريقيا، والتي تعود إلى عهود ما قبل الإسلام بكثير.

غادة السمان شخصية عامة وكاتبة عربية، تكتب باللغة العربية الفصحى لا باللهجة السورية العامية

المقال برأيي، أساء لغادة السمان بقدر إساءته لنوال السعدواي، وهو ما ذكره كثر وأنا منهم أيضا، على صفحات الفيس بوك إثر نشر المقال، وأظنه أمرا طبيعيا جدا أن يتم نقد المقال، لأن كاتبته، غادة السمان، شكلت في زمنها ظاهرة نادرة في الجرأة الأدبية وضعتها في مكانة عالية، وهنا لا أريد المفاضلة بينها وبين السعداوي، فكلتاهما قدمتا كثيرا، وإن كنت شخصيا، أعتبر نوال السعداوي إحدى رائدات النسوية العربية، والأكثر تأثيرا في الوعي الجمعي العربي من غادة السمان، بيد أن بعض الأصدقاء السوريين اعتبروا أن نقدنا لمقال غادة السمان يندرج تحت بند التنكر لقامات سوريا الإبداعية الباسقة، والذي يمارسه مثقفون سوريون عن قصد أو غير قصد، وبما أنني اعتبرت نفسي معنية جدا بهذا الكلام، لكون أحد الأصدقاء المعترضين على انتقاد السمان ترك تعليقا مشابها على صفحتي، فإنني فكرت مليا بما قيل: هل نحن فعلا تنكرنا لقامة سورية باسقة، حين انتقدنا ما كتبته في مقال؟! فغادة السمان شخصية عامة وكاتبة عربية، تكتب باللغة العربية الفصحى لا باللهجة السورية العامية، وبالتالي كتاباتها كلها موجهة لقارئ عربي لا سوري فقط، مثلها مثل السعداوي، وأظن أنها هي نفسها لا تفضل أن يتم تصنيفها ككاتبة سورية فقط، بل أكاد أجزم أنها تفضل أن تكون كاتبة عابرة للجنسيات، وهو الظن الأقرب لشخصية السمان الواضحة في كتاباتها عن نفسها.

في منطق آخر، ما معنى الحديث اليوم عن كاتب سوري أو مصري أو لبناني أو خليجي أو مغاربي أو أو ، ونحن في زمن بات العالم كله مفتوحا بعضه على بعض، واختفت فيه الخصوصية الفكرية والإبداعية لمن يكتبون بنفس اللغة، إذ لا يمكن أن يكون لدينا كتابة سورية مقابل كتابة فرنسية أو إنكليزية مثلا، هناك كتابة عربية مقابل الفرنسية أو الروسية أو الإسبانية، لغة الكتابة هي ما يعطي تلك الخصائص لا جنسية الكاتب، اللغة هي الحامل لكل التمايزات والخصوصية الفكرية والإبداعية، لا سيما في زمننا العربي الحالي، حيث يعيش العالم العربي بمجمله حالة اجتماعية وسياسية واقتصادية تكاد تكون عامة، وتمثلها الإبداعي والفكري يكاد أيضا أن يكون عاما، مما ألغى نهائيا الفوارق بين بلد عربي وآخر، صارت المقارنات، إن حدثت فهي بين كتابة عربية وكتابة بلغة أخرى، وحتى هنا بدأت الاختلافات تقل نتيجة الانفتاح التكنولوجي، ونتيجة الأزمات التي تكاد تكون متشابهة في كل البشرية خلال العقد الذي نعيش فيه، سواء السياسية أو الاقتصادية، وحاليا ما أنتجته عزلة الفيروس، ثم إن الهجرات واللجوء التي حدثت من بلاد العالم الثالث والعرب تحديدا إلى البلدان الأوروبية، مزجت بين هذه الخصوصيات، بعد أن كانت حركة الترجمة المتبادلة قد فتحت الأفق لفهم وتمثل الخصائص الإبداعية في اللغات الأخرى ومحاكاتها من قبل الكتاب في كل اللغات. أما الجنسية السورية أو المصرية أو غيرها فهي حاليا ليست سوى تصنيفات تتعلق بالأوراق الرسمية والثبوتية، ولا معنى لها على الإطلاق في التوصيف الإبداعي والفكري والأدبي.

هل يكفي أن يكون الكاتب مولودا في سوريا لنعتبره قامة سورية باسقة لا يجوز انتقادها؟ أم أن الانتماء يحتاج إلى موقف وانحياز في ظرف تاريخي استثنائي

وبالعودة إلى غادة السمان، هل هي كاتبة سورية فعلا؟ وكيف يكون الكاتب سوريا حاليا؟ عشر سنوات من الكارثة السورية على كل المستويات، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والإنسانية، كارثة غير مسبوقة عربيا على الأقل، حتى القضية الفلسطينية بكل تاريخها، لم تصل إلى ما وصلت إليه الكارثة السورية خلال أقل من عشر سنوات من الموت المعمم والتهجير والدمار والقتل والدم والحقد والتجويع والحصار والفقر والذل وكل ما يخطر في البال من المآسي البشرية والجرائم التي تمارس ضد شعب، ومع ذلك لم تنطق غادة السمان بحرف واحد عن هذه المأساة، سوى مرة واحدة كتبت أسفا (استشراقيا) لما يحدث، لم يسجل لها أي موقف على الإطلاق، وهنا أنا لا أطالب أن تكون مع الثورة ضد النظام (مع أن هذا ما يجب أن يكون عليه انحياز المثقف الحقيقي)، وإنما يفترض أن يكون لها موقف مما يحدث حتى لو كان موقفها مؤيدا للنظام وضد الثورة، فهي بذلك تعلن أنها سورية، وأنها تقف مع سوريا التي ترى أنها سوريا الحق، أما أن تصمت تماما ولا تتحدث عما يحدث وكأن كل هذا يحدث في كوكب آخر، فهو يشبه كلامها أنها لم تسمع عن الختان إلا من نوال السعداوي، ربما لم تسمع أيضا عما يحدث في سوريا إلا من بعض وسائل الإعلام، وكأنها تتابع خبر معارك فضائية لا تعنيها؛ هل يكفي أن يكون الكاتب مولودا في سوريا لنعتبره قامة سورية باسقة لا يجوز انتقادها؟ أم أن الانتماء يحتاج إلى موقف وانحياز في ظرف تاريخي استثنائي مثل الظرف السوري الحالي؟  ليكن موقفك وانحيازك لمن تشاء، أنت هنا تثبت انتماءك لبلدك ولو بطريقة لا يراها آخرون صحيحة، أما صمتك المطبق وعدم اكتراثك بما يحدث فهو دليل على أنك غير منتم، لا بأس من حق الكاتب أن يكون غير منتم، لكن لا يحق لأحد أن يطالبنا بأن نعتبره منتميا لبلد لا تعنيه لا من قريب ولا من بعيد، مع أن كاتبة بقيمة غادة السمان كان يمكن لموقفها إن وجد، أن يلفت النظر إلى ما يحدث في سوريا، كلما تناسى العالم مأساتها.