كيف تصنع دولة وفق المذهب الروسي؟

2022.03.17 | 04:53 دمشق

2022-03-10t145534z_515719381_rc2qzs9is1sg_rtrmadp_3_ukraine-crisis-russia-putin.jpg
+A
حجم الخط
-A

مما يذكره تاريخ سوريا في زمن الانتداب الفرنسي، أن عائلة ثابت الإقطاعية مالكة قرية المشرفة شمال شرق مدينة حمص، وفي عام 1920، سكّت بعلم السلطات نقوداً خاصة بتعاملاتها من الألمنيوم، دفعت بها أجور فلاحين (مرابعين) عملوا في أراضي العائلة منذ أن اشترت القرية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.

قطع العملة المتداولة بين جامع التحف والعملات الآن، لم تشكل في أي وقت علامة على رغبة العائلة في تحويل ملكيتها إلى كيان مستقل أو حكم ذاتي، بل كانت مجرد أداة للاستحواذ والتحكم، تسيطر من خلالها على موارد الناس الخاضعين لهم، ولهذا لم تتعارض هذه الإرادة مع سياسة الفرنسيين، الذين رفضوا، ومنعوا لفترة طويلة أي ملمح استقلالي سوري.

ورغم ذلك، يرى البعض أن مجرد قدرته على سك عملة تحمل اسمه، قد تسهل له غاياته، وهذا ما فعله عناصر تنظيم الدولة، حينما صنعوا دنانير ذهبية لخلافتهم البائدة.

وفي زمننا القريب، أعادت السينما لنا قصة المهندس الإيطالي اللاسلطوي (فوضوي) جورجيو روزا، من خلال فيلم عن تجربته، حينما قام بإنشاء جمهوريته الخاصة، خارج المياه الإقليمية الإيطالية، تحت اسم "جزيرة الورد" أو "روز آيلاند" (Rose Island) وحاول الحصول على الاعتراف بها، من خلال تقدمه بطلب للمجلس الأوروبي، قبل أن تقوم الحكومة الإيطالية بإنهاء حلمه، من خلال تدمير كيانه المادي، وهو مجرد منصة إسمنتية قائمة وسط مياه البحر!

في الوقت الحالي، لا يخلو المشهد من مشاريع "دول" يوفر لها أصحابها مقومات الأرض والعلم الخاص والدعاية وغير ذلك، مثل "الجبل الأصفر" التي تقع في المنطقة المتنازع عليها بين مصر والسودان، و"ليبرلاند" الواقعة في منطقة غير مأهولة بين كرواتيا وصربيا.

تجارب الجماعات والأفراد لصناعة الدول المستقلة هذه، لا تحمل في مضمونها سوى حيثيات طريفة، كهذه التي نسوقها هنا، وتجعل الأخبار عنها تنشر في صفحات المنوعات، وليس الإخبارية أو السياسية، فسك العملات مثلاً، يمكن أن يحدث، لا بل إن مؤسسات كثيرة لا تجعل النقد موضع تداول في حدود ملكيتها، بل تضع بدلاً منه قطعاً ورقية أو معدنية أو بلاستيكية خاصة، مثل كازينوهات القمار، لكنه لا يصنع كياناً سياسياً، طالما أن أصحابه قد صنعوه لغاية تسويقية، وكذلك يمكن اعتبار الأعلام، والشعارات.

وإن توفرت الرغبة لدى هؤلاء في صناعة دولهم الصغيرة، وقاموا بخطوات صوب ذلك الهدف، فإن شروطاً أخرى وحاجيات متعددة ستشكل عقبات كأداء أمام وصولهم إليه.

استخدم بوتين وجود الفئات الناطقة باللغة الروسية تحت مسمى الأقليات، في كل الجمهوريات السوفيتية السابقة ذريعة للتدخل في شؤونها، كلما قررت إحداها أن تخرج من تحت هيمنة سياسة حكمه المافيوي.

بالطبع، للشعوب التي تحمل بذاتها مقومات وجودها المتفرد عن غيرها كالثقافة والعادات والتقاليد، حقها الكامل في تقرير مصيرها، لكن استخدام هذه المقومات من قبل إمبريالية مهيمنة، يجعل من الطموحات الشرعية مجرد أدوات سياسية لمناكفة الآخرين، والإضرار بمصالح ووجود الدول الراسخة، المعترف بها بموجب القوانين الدولية.

وإمعاناً في التدقيق في فحوى ما جرى ويجري، لنتخيل أن تعترف دولة عظمى بأي من الدول المشار إليها أعلاه، ثم تدعمها مادياً ومعنوياً، وفي وقت ما تقوم بالتدخل العسكري من أجلها!!

استخدم بوتين وجود الفئات الناطقة باللغة الروسية تحت مسمى الأقليات، في كل الجمهوريات السوفيتية السابقة ذريعة للتدخل في شؤونها، كلما قررت إحداها أن تخرج من تحت هيمنة سياسة حكمه المافيوي.

وهكذا، رفض سكان "ترانس دينستر" وهو شريط من الأرض المولدوفية يمتد على الحدود مع أوكرانيا، الخضوع لسلطة الدولة التي ينتمون إليها، وأصروا على أن يبقوا من السوفيتات، وبعد مماحكات داخلية مع الجيش الوطني، أعلنوا استقلالهم، وطلبوا دعم روسيا التي أرسلت لهم 1500 جندي، ما زالوا يرابطون هناك، يحمون دولة متحفية ما زال علمها يحمل شعار المنجل والمطرقة، أعلن رئيسها -في واقعة رومانسية- إقالة وزيرة خارجيتها، كي تصبح زوجته!

وفي جورجيا عام 2008، ناشدت فئات من أوسيتيا وأبخازيا الاتحاد الروسي التدخل لحمايتهما من الحكومة الجورجية، ما أدى فعلياً إلى فصلهما عن الدولة المركزية بعد اعتداء روسي خاطف، وتكريسهما مستقلتين، لا يعترف بهما أحد، سوى تلك الأنظمة التي تتواطأ لغايات سياسية مع بوتين، كالنظام السوري والآخر الفنزويلي.

واجهاتُ النظام البوتيني ادعت مراراً أنها لا تعترف سوى بالأنظمة القائمة، وكثيراً ما رددت أنها لا توافق على أي تغيير في الوضع الراهن للدول المستقرة، ينتج عن الإضرابات الداخلية، وقد شكلت هذه "الفلسفة" أساس التدخل في سوريا، لكن هذا المبدأ الذي يطبقه الكرملين كحق يراد به باطل، يصبح قابلاً للتعديل وللمضي إلى ما يعاكسه، بحسب إملاءات المصالح الروسية.

والآن وبعد أكثر من ثلاثة أسابيع من حرب شنتها جحافل موسكو، بحجة حماية سكان إقليمين أوكرانيين من جيش دولتهم، ومن مليشيات قومية متطرفة، ألم تتهافت فلسفة بوتين المطاطية؟