كيف تحول البعث من حزب إصلاحي إلى شمولي؟

2020.12.04 | 23:03 دمشق

598d6623d43750ef218b4567.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يكن حزب البعث في بداياته ومنطلقاته النظرية الأولى حزباً دكتاتورياً يمتح من أدبيات الشيوعية، بل كان حزباً قومياً اشتراكياً ذا طابع ليبرالي، فمؤسساه الدمشقيان المنحدران من الطبقات الوسطى، ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، درسا في فرنسا وتأثرا بتجربة الأحزاب الليبرالية هناك، وأرادا أن يطبقا هذه التجربة مع إضافة النكهة العربية على حزب البعث، الذي كان مؤسساه معلمي مدرسة نخبويين، وعلاقاتهما تقتصر على الوسط المثقف، ورغم كل ما قيل عن أن دمشق رفضت هذا الحزب فقد حضر مؤتمره التأسيسي الأول نحو 150 عضواً في العاصمة عام 1947 بينهم عشرات الطلاب الدمشقيين.

لم يصبح حزب البعث شعبوياً إلا بعد اتحاده عام 1952 مع الحزب الاشتراكي الذي أسسه في مدينة حماة أكرم الحوراني، ليحمل حينها اسم "حزب البعث العربي الاشتراكي". فالحوراني المحامي الذي كان يعمل على الأرض بين العمال والفلاحين معرفاً إياهم بحقوقهم، ومطالباً بالإصلاح الزراعي، وهو الذي جعل حزب البعث ينزل من علياء النظريات الفلسفية والرؤى القومية إلى الحقول والمعامل، وهو المحرك الفعلي لعمليات الاستيلاء على الأراضي والمزارع تحت مسمى "الإصلاح الزراعي".

لقد كان البيطار وعفلق اشتراكيين مع الإصلاح الزراعي والتوزيع العادل للثروة، ولكن بطريقة لا تزعج البرجوازية الدمشقية التي ينتميان إليها

ومنذ نشأته حتى الوحدة مع مصر كان البعث يقدم مرشحيه ويخوض الانتخابات البرلمانية، وبعض أعضائه كانوا يتبوؤون مناصب وزارية، إلى أن جاءت الوحدة مع مصر عام 1958 حيث تم حل حزب البعث مع غيره من الأحزاب، كشرط من شروط جمال عبد الناصر لإتمام الوحدة، فتم تعيين صلاح الدين بيطار كوزير للثقافة، وأكرم الحوراني كنائب لعبد الناصر، وهي مناصب شكلية، الكلمة الفصل فيها لعبد الناصر، ثم قدم الاثنان استقالتهما من مناصبهما احتجاجاً، ثم وقع كلاهما على وثيقة الانفصال بين سوريا ومصر، ويُقال إن صلاح البيطار قد تراجع عن الانفصال، فيما لم يتراجع الحوراني عنه، وعندما قام انقلاب الثامن من آذار الذي قاده الناصريون والبعثيون، لم يؤيد الحوراني هذه الحركة.

لقد كان البيطار وعفلق اشتراكيين مع الإصلاح الزراعي والتوزيع العادل للثروة، ولكن بطريقة لا تزعج البرجوازية الدمشقية التي ينتميان إليها، وبعد حل حزب البعث إبان الوحدة التحق الكثير من الأعضاء بالتيار الناصري، فيما كان حينها يزداد بين السوريين رصيد الكتلة الشرقية التي رضيت أن تبيعهم سلاحاً لمواجهة إسرائيل، في حين كان الغرب هو الداعم الرئيسي لهذا الكيان، سواء بالمال أو العتاد العسكري.

لم تكن قيادة الحزب على علم مسبق بالانقلاب الذي سمي فيما بعد " ثورة الثامن من آذار" وهنا بدأت تنشأ " الشعبوية الاستبدادية"، حسبما أسماها ريموند هينبوش في كتابه "تشكيل الدولة الشمولية في سوريا"، وهذه الشعبوية الاستبدادية تسعى (لتأسيس سلطة الدولة القوية المستقلة عن الطبقات المهيمنة والقوى الخارجية، كما تسعى لإطلاق تنمية اقتصادية وطنية تهدف للتحرر من التبعية وإخضاع القوى الرأسمالية لأهداف الشعبوية).. وسلطة اتخاذ القرار هنا ستنحصر بأيدي نخبة صغيرة، غالباً ما يقودها قائد عسكري، وفي سوريا كانت الطائفية الأقلياتية عاملاً مهماً من عوامل بناء الشعبوية الاستبدادية، ومعها بدأت "ردكلة القوات المسلحة"، حيث تحول الجيش السوري من دعامة للدولة إلى أداة للتحدي الراديكالي، ولم يعد ينظر للقادة التاريخيين للبعث بعين الاحترام من قبل الناشطين الريفيين الذين ينتمون للأقليات، بل إن ردكلة الإيديولجيا البعثية بدأت عبر تبني الأدبيات الماركسية وقضية الصراع الطبقي، والحزب الذي بدأ كإصلاحي أصبح غصباً عن قادته المؤسسين يتبنى إيديولوجية ثورية.

يقول هينبوش إن الضباط والمثقفين الريفيين، وكنوع من الاستياء جراء أصولهم المتواضعة وقربهم للقرية، كانوا أكثر عداوة للمؤسسة المدينية التقليدية، ما حملهم على تنفيذ ثورة أكثر تطرفاً من قادة الحزب المنتمين إلى الطبقات المتمدنة.

وخلال ثلاثة أعوام بعد آذار ١٩٦٣ أصبح المؤسسان عفلق والبيطار خارج دائرة السلطة نهائياً، بل أصبحا مطاردين يخافان الاعتقال، ما أجبرهما على الخروج من سوريا، خصوصاً بعد حركة شباط عام 1966، والتي انقلب فيها صلاح جديد بمعاونة من حافظ الأسد وسليم حاطوم على عفلق وأمين الحافظ ومحمد عمران، وهذا التيار هو الذي يسمي بالبعث اليساري، وكل هذا رافقه عمليات تسريح كبيرة بحق الضباط السنة، وتم تطويع عناصر من الأقليات مكانهم، وهنا تم استبدال القادة ذوي النظرة الواسعة الدارسين في الغرب، بضباط شبان ريفيين متحمسين، أعطوا أدواراً غير متكافئة للأقليات في سلطات البعث الحاكمة.

هذا النظام المنبثق عن انقلاب شباط طبق أيديولوجيته المتطرفة في المجال الاقتصادي، وأعاد صوغ السياسة الخارجية السورية بالتوازي مع سياسته الاقتصادية المتطرفة، وأطلق دعاية معادية للدول العربية الموالية للغرب، فيما أقام اتفاقات مع الاتحاد السوفييتي، ومع هذه السياسة بدأ النفور المديني والمحافظ يزداد تجاه حزب البعث "الذي استبدل القادة المؤسسين المدنيين المعتدلين بريفيين هراطقة غير مثقفين" حسبما يقول هينبوش.

عقد مؤتمر قطري لحزب البعث تم فيه فصل حافظ وقائد أركانه مصطفى طلاس، إلا أن حافظ كان قد أعد لانقلاب، زج فيه برفاقه في السجن حتى وافتهم المنية

ومع هذا الوضع أصبحت الهزيمة التي مني بها النظام البعثي في حرب ١٩٦٧ أقل من طبيعية، وزاد من سوء الوضع الداخلي في سوريا استيلاء البعث المؤيد لعفلق على مقاليد السلطة في العراق عام 1968، ما زاد من التوترات داخل الحزب المتوتر أساساً، فعاشت سوريا خلال هذه السنوات فترات عصيبة، حيث كان بعث "صلاح جديد" يسعى لتصدير الثورة، ودعم الفدائيين الفلسطينيين، في حين كانت التصفيات بين الرفاق قائمة على قدم وساق، وبعد رفض وزير الدفاع آنذاك حافظ الأسد التدخل لنصرة الفدائيين في الأردن، عقد مؤتمر قطري لحزب البعث تم فيه فصل حافظ وقائد أركانه مصطفى طلاس، إلا أن حافظ كان قد أعد لانقلاب، زج فيه برفاقه في السجن حتى وافتهم المنية.

وفي سياسته انفتح الأسد على البرجوازيين الذين اشتد ضعفهم ولم يعودوا يشكلون خطراً على السلطة، وانفتح على الدول العربية التي من شأنها تمويل أي تحرك ضد إسرائيل، وفي الأثناء انتهز الأسد الفرصة لإعادة تشكيل دولة البعث من التجربة اللينينية الفاشلة وتحويل نظام البعث الهجين إلى نظام رئاسي ملكي استبدادي، وبواجهة هي حزب البعث العربي الاشتراكي.