كيف تتحكم أفغانستان بالسياسة العالمية؟

2021.08.30 | 06:20 دمشق

820211316027706.jpg
+A
حجم الخط
-A

ليس من باب المبالغة أن يتحدث المراقبون عن مركزية جيوسياسية لأفغانستان في السياسة العالمية، فذلك البلد الجبلي الصعب كان على الدوام صندوق بريد للسياسة العالمية وميدان رماية قاسياً جداً لتصفية الحسابات بين أطراف النزاع العالمي، ولطالما كانت "بلاد الأنين" كما تعني كلمة أفغان في اللغة الفارسية، باباً اندفعت إليه القوى السياسية العالمية نحو النظام العالمي الجديد، بحيث بات السلام في أفغانستان مصدر قلق لمن يريد أن يفتح ذلك الباب مجدداً نحو عالم جديد.. يدفع الشعب الأفغاني ثمنه مجدداً.

تلقت واشنطن صفعة هائلة لم يعرف مثلها عبر التاريخ من ذات المجاهدين الذين استقبلهم الرئيس في المكتب البيضاوي ذات يوم قبل عقدين من الزمن

في ثمانينيات القرن المنصرم، اجتاحت الجيوش السوفيتية أفغانستان وأعادت تنصيب الرئيس الشيوعي الأخير لتلك البلاد نجيب الله، وقد كانت خطيئة الغزو السوفييتي قاتلة ومريرة لطرفي الصراع اللذين لعبا على وتر احتلال وحرية تلك البلاد، فالمحتل السوفييتي، دفع أثماناً باهظة جراء ذلك الغزو بدأت بآلاف التوابيت التي تنقل يومياً إلى موسكو، مروراً بخسائر مالية لا تصدق لبلد مترامي الأطراف ومنهك اقتصادياً حتى الثمالة، متعب من الحرب الباردة ومن الضغط الشعبي الذي تزايد بعد كارثة تشيرنوبل النووية، وصولاً إلى سقوط الاتحاد السوفييتي ذاته وانهياره وتبعثر دوله كنتيجة مباشرة لذلك الغزو، وعلى الطرف الآخر لعبت الولايات المتحدة دور المحرر والمنقذ للأمة الأفغانية عبر تقوية خصم السوفييت المباشر على الأرض، فقد استقبل الرئيس الأميركي رونالد ريغان في البيت الأبيض وفداً من (المجاهدين) وهم عبارة عن قادة عدد من الفصائل الإسلامية التي أعلنت الجهاد ضد السوفييت وأعلن دعمه الشامل لهم، بناء على نصيحة استراتيجية من مستشار الأمن القومي حينذاك بريجنيسكي.. وما هي إلا عشر سنوات على سقوط الاتحاد السوفييتي، الخصم اللامحدود للولايات المتحدة، حتى تلقت واشنطن صفعة هائلة لم يعرف مثلها عبر التاريخ من ذات المجاهدين الذين استقبلهم الرئيس في المكتب البيضاوي ذات يوم قبل عقدين من الزمن.. فكانت أفغانستان تلك من أسهمت بتغيير العالم الذي نعيش فيه من حيث لا تدري طبعاً.. فقد قررت أميركا إعلان استراتيجيتها بعد أحداث الحادي عشر من أيلول مباشرة، ومارست سياسة القطب الأوحد بشكل سافر معلنة عودة المفهوم الكولونيالي من جديد إلى الساحة الدولية بعد انقراضه بشكل كامل.. فاحتلت العراق وأفغانستان وبدأت بسياسة تتطويق كوريا الشمالية وإيران كدول راعية للإرهاب العالمي ومهددة للاستقرار الدولي.

قبل ذلك في نهاية السبعينات من القرن العشرين، حينما كانت لعبة رقع الشطرنج مشتعلة بين واشنطن وموسكو عبر سباقهما المحموم على كسب مربعات الرقعة العالمية واقتسامهما، فواشنطن تسعى لبسط نفوذها على أكبر عدد ممكن من الدول بذريعة نشر الديمقراطية، وموسكو كانت تسعى لضم ما تبقى من الدول تحت جناحها تحت ذريعة نشر الاشتراكية والشيوعية.. فكان السابق بينهما على فييتنام وكوريا وكوبا ومصر وسوريا وكمبوديا وتشيكوسلوفاكيا والمجر واليمن وعُمان والخليج العربي وتركيا وبالطبع وصل النزاع إلى أفغانستان التي قررت موسكو أن تتدخل عسكرياً لإعادتها إلى حظيرة لينين، بعد الإطاحة بحكومة ابن عم الملك الأفغاني، والرئيس الأول لأفغانستان.. كما ذكرنا.. حصل ذلك وقرر الغرب أن يحارب السوفييت عبر المجاهدين، ولكن كيف أثرت أفغانستان في حياة عموم العرب منذ ذلك الوقت، والجواب أننا لم نتأثر فقط عبر سياسات إرسال المجاهدين إلى بيشاور ومنها إلى قندهار، ولا بما تعارف عليه بالأفغان العرب الذين ما إن انتهت الحرب في كابول حتى عادوا إلى بلدانهم محملين بالفكر الجهادي التكفيري الذي يحمل نزعة للتغيير عبر البندقية.. فانتقل الصراع من جبال هرات إلى باقي الدول العربية التي يُدعم جزء ليس باليسير منها من قبل نظام موسكو أياً كان شيوعي أم رأسمالي والذي يؤمن أيضاً بضرورة بقاء الأنظمة بقوة السلاح كوجه معاكس للفكر الجهادي.. فاشتعلت المعارك والاضطرابات في البلدان العربية بين الأنظمة والأفغان العرب ومن ناصرهم.

من سوريا التي اشتعل التوتر فيها بين نظام مدعوم من موسكو لا مانع لديه بإبادة نصف المجتمع من أجل الإبقاء على النظام وبين فصائل إسلامية رفعت السلاح بين منازل المدنيين في الثمانينيات.. إلى الجزائر التي عاشت عشرية سوداء كان ضحيتها مئات آلاف القتلى بسبب إجرام العسكر والمسلحين.. إلى مصر التي قتل رئيسها أنور السادات على أيدي الفصائل الإسلامية، إلى السودان واليمن..

ولكن بصمة أفغانستان الواضحة في مسيرة الشرق الأوسط وشعوبه، كانت في كونها تشكل مع إيران حداً جنوبياً يفصل الشيوعيين السوفييت عن المياه الدافئة، تلك الفكرة التي كانت ترعب الغرب والخليج العربي بذات الدرجة.. فما كان من ذلك الغرب الذي يجلس على الضفة المقابلة لرقعة الشطرنج إلا أن وضع أعداء الشيوعيين في جنوب السوفييتات، وإلى جوار أفغانستان التي باتت محكومة بالفصائل السنية، قرر وضع إمارة إسلامية ولكنها شيعية، لكي تحتوي بشكل من الأشكال تمدد الخطر الجهادي إلى منابع النفط وتكبح التمدد الشيوعي في نهاية السبعينيات.. وهكذا كان، فكانت عودة الإمام الخميني من باريس إلى طهران على متن الخطوط الفرنسية، ليتمكن من سحق شركائه في الثورة ضد الشاه وأغلبهم شيوعيون كذلك، فعلقهم على إشارات المرور ليكون المثل لنقيضه الطالباني حينما سيعلق الرئيس الشيوعي الأفغاني نجيب الله على عمود الإشارة الضوئية في كابول.. وهكذا نجحت الدولة الإسلامية في طهران والفصائل الإسلامية في كابول في وضع حد من نار في وجه التمدد الشيوعي جنوباً.. وليكونا نقيضين وجوديين لبعضهما البعض في الوقت ذاته.

هاهي أفغانستان مجدداً ستتحول إلى بوابة للدخول إلى عالم جديد، في مواجهة الصين وروسيا وإيران

وهاهي طالبان تحول أفغانستان مجدداً إلى كرة من نار، سيتحكم بها اتفاقها مع خصمها السابق، الولايات المتحدة، وهاهي أفغانستان مجدداً ستتحول إلى بوابة للدخول إلى عالم جديد، في مواجهة الصين وروسيا وإيران، فكيف للعدوين أن يصبحا على نسق واحد؟ ربما كما يقول المثل "لا تتخذ الصديق إلا بعد عداوة مريرة".. وليس لأحد أن يعرف كيف ستمضي السياسة العالمية بين الصين والولايات المتحدة، أو بين روسيا وطالبان، فبعد وصول الروس وإيران إلى المياه الدافئة في سوريا ولبنان. هل ينبغي عليهما الاستدارة شرقاً، أم يجب على الصينيين أن يخوضوا هذه المرة في وحول جبال تورا بورا.. إنها البوابة الأفغانية مجدداً لتغيير العالم.