كيف بدت سوريا لرحالة وسياسي فرنسي قبل قرن؟

2021.01.09 | 00:05 دمشق

dwo_8dowoau52i_.jpg
+A
حجم الخط
-A

من الجيد قراءة شهادات الرحالة الغربيين عن منطقتنا قبل قرن من الزمان، إلا أن هذه القراءة تكتسب قيمة مضافة إذا كان هذا الكاتب سياسياً، وموكلاً إليه أداء دور سياسي رسمي، من هنا تأتي أهمية كتاب "مسافر إلى سوريا" للصحفي والسياسي الفرنسي بيير لامازيير، الصادر في عام 1926 من القرن الماضي، والذي ترجمته فوزية الزوباري عام 2009، عن دار المدى.

رغم أهمية كتابه بالنسبة للسوريين على أقل تقدير، إلا أنه عند البحث عن الكاتب والروائي في المصادر الفرنسية وجدنا أن حضوره خجول، وكذلك هو كتابه الذي نتناوله اليوم.

تملقٌ للمندوب السامي

كان لامازيير مرافقاً للمندوب الفرنسي الرابع إلى سوريا هنري دو جفنيل، وهو المندوب السامي المدني بعد ثلاثة جنرالات تعاقبوا على حكم سوريا، بعد الانتداب الفرنسي عليها، وكان لامازيير مع دو جوفينيل على السفينة ذاتها التي أقلته من فرنسا إلى سوريا.

يقول الكاتب إن العشرات من الوسطاء اللبنانيين قد أتوا إلى مدينة مرسيليا الفرنسية، عندما علموا بإقالة المندوب الفرنسي السابق موريس بول ساراي، وتعيين دي جفنيل مكانه كي يرافقوه وينسجوا معه علاقات يستفيدون منها في صفقاتهم التجارية والسياسية، مع ما يرافق ذلك من تملق ونفاق، "بأنه لو فتح قلبهم لوجد اسم فرنسا العزيزة مكتوباً فيه بأحرف من ذهب.. واعتباراً من اللحظة يستطيع هؤلاء السادة البيروتيون الادعاء أنهم ينتمون إلى خاصة دو جفنيل وبكونهم المؤتمنين على أفكاره والمحافظين على أسراره، والحديث باسمه!" وهؤلاء السماسرة كانوا قد رافقوا بالطريقة ذاتها أكثر من مندوب سامي فرنسي.

يرى لامازيير أن النصراني المشرقي مختلف تماماً عن نظيره الغربي، ومن الصعب الاعتقاد أن فكراً واحداً يجمع كليهما، على حد وصفه.

ألاعيب البريطانيين!

 يوضح الكاتب رؤيته لسوريا والإطاحة بحكومة فيصل، فيقول إنها منقسمة إلى مجموعات صغيرة متعادية وإقصائية، وأن سوريا بحاجة إلى قرن حتى تنعم بالديمقراطية.

في تلك الفترة بعد خروج العثمانيين إثر مشاركة للعرب في القتال وصفها بالهشة، يقول الكاتب إن البريطانيين كانوا يتفاوضون مع الشريف حسين عبر عملائهم غير الرسميين، وليس عبر دبلوماسييهم كي يستطيعوا أن يتنصلوا من أي مسؤولية تترتب على الاتفاقات مع الشريف حسين، ليرى بعد ذلك أن المملكة العربية كانت حلماً صعب التحقيق، وكان البريطانيون من خلاله يريدون ربط كل المنطقة بهم عبر الشريف حسين الضعيف، وعندما لم يستطع الإنكليز "الحصول على كامل الكعكة التي يطمحون فيها، راحوا يتفننون في تسميم القطع التي كانت ستفلت منهم لا محالة".

بين دوجفينيل وجمال باشا

يصف الروائي الرحلة التي قام بها المندوب السامي دوجفينيل إلى بكركي مركز البطريركية المارونية، "فكل مسيحي في الشرق هو صديق للفرنسيين، والمسيحية في لبنان مرادفة لمناصرة فرنسا سياسياً"، ويقول إن تخلي فرنسا عن الانتداب كان يرعب هؤلاء، لذلك كان ينبغي رؤية الحماس الذي استقبل به ممثل فرنسا على طول المسافة بين بيروت وبكركي، حيث كان علم فرنسا يخفق فوق كل منزل على الطريق.

يقول الكاتب إنه كان متأثرا بالجو العام للاستقبال وبالكلام العظيم الذي قيل من البطرك ورجال الدين والأعيان الموارنة، ولكنه عندما عاد إلى بيروت التقى صديقاً فرنسياً يقيم في لبنان منذ سنوات طويلة ويعرفه أكثر من بلده، والذي أخبره أن في هذا البلد لا يوجد حقائق ولا أكاذيب، يوجد فقط روايات، وعرض الصديق الفرنسي عليه عدداً من صحيفة بيروت صدرت يوم زيارة جمال باشا لبكركي إبان الحرب العالمية الأولى، مشيراً إلى أن الكلام المنمق الذي قيل في استقبال دوجفنيل قد قيل مثله لجمال باشا، وزير حربية السلطنة العثمانية!

دو جفنيل قال في خطابه أمام الهيئة التمثيلية للبنان الكبير إن دولة العلويين ودولة لبنان ستنعمان بالحياة الدستورية وسيعم فيهما السلام، كونهما لم يشاركا في "الثورة السورية الكبرى".

دمشق وحلب كالضلع

أثناء زيارة المندوب السامي إلى حلب، رغم أن العلم الفرنسي كان يرفرف في النوافذ إلا أن الحلبي "المسلم الحقيقي" كان وجوده نادراً على الطريق الممتدة من المحطة حتى قاعة الاستقبال، وأثناء الاستقبال خطب الزعماء مطالبين بالاتحاد مع دمشق، وقد تناوبوا على وصف العلاقة بين المدينتين بالضلع الذي لا يمكن الفصل فيه بين اللحم والعظم.

لا يفوت الكاتب الحديث عن الهزيمة التي مني فيها الجيش الفرنسي في جبل العرب، بل ويسمي الثورة السورية بـ "ثورة الدروز" وهنا يتحدث عن أن الإنكليز أصروا على إعطاء جبل العرب للفرنسيين، رغم أنهم هم حماة الدروز التاريخيون منذ عام 1860، لخلق مزيد من الصعوبات للفرنسيين، الذين أراد ضباطهم "إقامة النظام الديمقراطي في الجبل، وأرادوا أن يتقدم المجتمع الدرزي قرناً وأكثر خلال بضعة شهور!"

مدينة ملونة وشعبها هائج!

عندما وصل الكاتب إلى دمشق وصفها بأنها مدينة ملونة وذات السمة الشرقية الخالصة، والتي فيها قصور وأطلال قديمة غافية تحت الغبار المتراكم عبر القرون. "شعبها هائج لدرجة يقوده فيها تعصبه وكرهه للأجنبي أحياناً لارتكاب أفظع الأعمال" على حد قوله، ربما هو هنا يتكلم عن كره الدمشقيين للاحتلال، الذي هو أحد وجوهه.

غورو الصليبي

ويبدو أن سياق الكتاب يسير نحو التشاؤم بعد فشل الفرنسيين في سوريا، عقب ست سنوات من الانتداب، إذ يقول لامازيير إن الفرنسيين لم يستطيعوا جعل السوريين يحبونهم، ولا حتى يخافونهم، مشيراً إلى أن العسكريين الفرنسيين الذين انتصروا في الحرب العالمية الأولى كانوا لا يؤمنون سوى بالقوة ويسخرون كثيراً من عصبة الأمم المتحدة، ولم يكونوا يأبهون بالطقوس والأعراف المحلية وبخصوصية كل مجموعة سكانية وبالحساسية الفردية أو الجمعية، متجاهلين أن سوريا بلد قديم جداً، ذو ثقافة عميقة جداً، مؤكداً أن الجنرال غورو كان له عقلية الصليبيين، وأن سوريا أرض مسيحية والمسلم متطفل عليها "ولما لم يكن بالإمكان طرده، فقد كان يلزم إن لم تستطع إخضاعه، فعلى الأقل إذلاله وتفضيل المسيحي الصديق عليه، المحمي وصديق فرنسا لقرون خلت".

كما عمل غورو على تشجيع الدسائس المحلية، بإعطائه المجموعات العرقية أو الدينية الصغيرة طموحاً شاذاً بأن تكون دولاً!

يذكر كذلك لامازيير العديد من الإجراءات الفرنسية التي أدت إلى السخط السوري، كسلخ لبنان عن سوريا، وبالتالي حرمان دمشق من مينائها الطبيعي في بيروت، فضلاً عن معاهدة أنقرة التي أعطت فرنسا بموجبها إقليم كيليكيا للأتراك، -هذا قبل تسليم لواء اسكندرون لتركيا-، إضافة إلى جذب الأرمن إلى سوريا، "وجعله يؤدي دوراً ضد العربي، هو الدور نفسه الذي أداه الصهيوني في فلسطين، طارداً العناصر الأصلية وحالاً محلها".

أمراء كُثُر

الكاتب اقترح تحويل دمشق إلى إمارة عربية مزدهرة يكون عليها أحد الأمراء الموالين لفرنسا، وكثيرون هم من تنطعوا لهذه المهمة.

وفي النهاية أختتم مقالي بهذه المقتطف الذي دار فيه على أهم مدن سوريا، قبل إعلان قيام دولة لبنان الكبير، "حلب، حلب الحقيقية، حلب المسلمة، القاسية والعصية على الفهم، والممتدة بين القلعة والصحراء، لا تسلم سرها. وبيروت الجامعة لأجناس متعددة ومختلفة، بيروت الفاسدة مشغولة بالمنافع المادية وحدها، مشغولة بالكسب وهي تمارس بمهارة تامة قول الكلام الذي يرغب السامعون في سماعه، وأياً كانوا.

تستلم دمشق أكثر للحركة والصخب، يطلق العربي عليها اسم الشام، وهو الاسم نفسه الذي يطلقونه على البلد بأجمعها، إنها محاطة بحدائق مبهجة ومسقية من دون انقطاع بآلاف الجداول القادمة من الجبال، التي تغذي أجمل الأشجار المثمرة وتساعد على نموها، هذه الأشجار التي يؤكد القرآن الكريم على أنها صورة من صور الجنة. إنها دمشق قلب سوريا ودماغها".