كيف بدا حافظ الأسد في "الجيل المدان"؟

2021.10.06 | 06:00 دمشق

20cf43bf-9bef-498a-925b-167706cd6aec.jpeg
+A
حجم الخط
-A

"نحن مسؤولون وجيلنا مدان، لأننا كجيل لم نكن أوفياء للمبادئ التي رسمناها للحزب، ولم نكن أوفياء للسير النزيه نحو هذه الأهداف، وغرقنا في الذرائع حتى نحمي أنفسنا من السقوط عن سدة الحكم، فسقطنا معنوياً وأخلاقياً، ولم نعد نحس بأي رابط بيننا وبين البعث الأول".

هذا الكلام ورد في مقدمة كتاب "الجيل المدان" لمنصور الأطرش 1925-2006، الابن الأكبر لقائد الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي، وهو أيضاً أحد الرواد الأوائل لحزب البعث العربي الاشتراكي.

خيبة أمل!

يقرُّ الأطرش خلال صفحات هذا الكتاب الخمسمئة بإدانة ذلك الجيل الذي حمل آمالاً عريضة، ولكن جَمَل الآمال لم يتمخض حتى عن فأر. فبدل التوحد كان التشرذم العربي يزداد حتى بين جناحَي البعث الوحدوي في العراق وسوريا، والقمع- كبديل للحرية- اشتد حتى وصل إلى ما يمكن تصوره مع حافظ الأسد ووريثه، الذين شاركوا- من الاشتراكية- مع أزلامهم السوريين ما في جيوبهم، حتى اغتنوا هم في حين افتقر السوريون، ولعل الانتكاسات التي مُني بها ذلك الجيل القومي هي ما أوصلتنا إلى ما نحن فيه من تشتت وتمزق وضياع.

فكرة الإدانة وخيبة الأمل محطّ إجماع بين معظم من كتبوا سيرتهم الذاتية عن تلك المرحل. نبيل شويري أحد رواد حزب البعث، والقريب من منصور الأطرش كان قد سمّى كتابه " سوريا وحطام المراكب المبعثرة"، وفيه هاجم مؤسسي البعث، وخصوصاً ميشيل عفلق لانتهازيتهم، وفشلهم بترجمة المبادئ الكبرى على أرض الواقع، بينما تم مدح حافظ الأسد بصورة غير مباشرة لأنه "عملي".

وكذلك أصدر المقرَّب من الناصرية ووزير الصحة في أثناء الوحدة بين سوريا ومصر بشير العظمة كتاباً سمّاه "جيل الهزيمة"، وهو كذلك رئيس الوزراء في حكومة الانفصال عن مصر عام 1961، والذي تم تعيينه في هذا المنصب مراضاةً لعبد الناصر، إلا أن العظمة حمَّل الأخير ضمنياً ومن خلال المجريات التي حصلت معه مسؤولية فشل الوحدة بين سوريا ومصر، بل وحتى الهزيمة التي مني بها البلدان من إسرائيل، وما زلنا إلى اليوم بعد أكثر من ستة عقود نعاني من عقابيلها، وهنا لم يتم الحديث عن نظام البعث وحافظ الأسد لا من قريب ولا من بعيد.

هل هو الخوف؟

ومثل أغلب السير الذاتية التي صدرت عن سياسيي تلك المرحلة، فإنهم يحومون حول القضية دون أن يقتربوا منها، فكل قارئ لتاريخ سوريا الحديث يحاول أن يجد تبريراً منطقياً لما جرى ويجري في بلدنا، وخصوصاً لجهة الدعم الدولي الكبير الذي كان يحظى به حافظ الأسد، رغم أنه كان في البداية مغموراً، وورد اسمه في ذيل قائمة الضباط الذين قاموا بانقلاب الثامن من آذار، ولكن سياسيي تلك المرحلة يحجمون أو يخافون من الخوض في هذا الغمار، ربما هم تعلموا الدرس من محمد عمران، الذي أصدر بداية عام 1972 الجزء الأول من مذكراته تحت عنوان "تجربتي في الثورة" وقال إنه سيصدر جزءاً ثانياً من المذكرات، سيذكر فيها كثيراً من التفاصيل والأسماء عن الخيانات، فتم اغتياله على الفور، وهو لم يكن يشكل تهديداً فعلياً لحافظ الأسد الذي خلا له الجوّ بعد تخلصه من كل الكبار، وعمران في لبنان منذ عام 67، والضباط الذين كانوا يوالونه في الجيش قد رغبوا عنه إلى حافظ الأسد.

مهاجمة جْديد!

لا يكشف لنا الكتاب شيئاً من المخفي الذي نريد معرفته، فهو لم يهاجم الأسد، رغم أنه أوضح أن "أبو سليمان يريد أن يكون الجميع تابعاً له، بل أثنى عليه في أكثر من موقع، فالأسد عندما داهم بيت الأطرش بعد انقلاب 23 شباط 1966 إنما جاء ليناقش معه وحدة الصف بين البعثيين! وعقب اعتقاله من قبل رفاق دربه الانقلابيين، كان الأسد يعارض معاملة الأطرش ورفاقه بقسوة في أثناء سجنهم. الأطرش اكتفى بمهاجمة معلم الأسد، صلاح جديد، الذي انقلب الأسد عليه فيما بعد وزج به في السجن ليموت فيه، إذ ينتقد الأطرش جديد وكذبه، حيث يقول في الكتاب إن جديد كان يقول "إن أمين الحافظ هو هبة الله العظيم لهذه الثورة وهذا الحزب"، رغم أن جديد لم يكن يحب الحافظ إلا عندما كان يسير وفق هواه، وعندما خالفه اتهمه بالطائفية، بل تم الانقلاب عليه وأصيب مع بعض أفراد عائلته في أثناء الهجوم على منزله، ليتم القبض على الحافظ وإيداعه السجن، ثم نفيه لاحقاً.

العسكر والمدنية!

ينتقد الكاتب سيطرة العسكريين على السلطة وإبعاد القيادة المدنية، واصفاً العسكريين بالحزبيين الذين لا علاقة لهم بالبعث "إلا من هداه الله"، مشدداً على أن "ثورة  الثامن من آذار" كانت ثورة البعث، ثم أصبح حزب البعث حزب الثورة، ومطيّة لعسكرها، الذين عسكروا الحزب ولم يستطع البعث تمدينهم.

الكتاب الذي أعدّته ونشرته ريم ابنة منصور الأطرش عام 2008 بعد وفاته بسنتين، انتقد تشجيع نظام الأسد للقطرية على حساب القومية "تبدل الخطاب السياسي في الأوساط الحاكمة ونمت المصالح القطرية، وبدلاً من أن ننشد (بلاد العرب أوطاني) أصبحنا ننشد (سوريا يا حبيبتي) أو (أنا سوري آه يا نيالي)".

هروب إلى لبنان

منصور الأطرش وريث عائلة وطنية كبيرة، يعدّ من المناضلين القوميين الذي ضحّوا في هذا الطريق، تبوّأ عدة مناصب منها وزارة العمل منذ انقلاب البعث، الذي سُجن في عهده عدة مرات، وهرب إلى لبنان بعد المحاولة الانقلابية التي قام بها سليم حاطوم في السويداء، إذ يقول الأطرش في كتابه إنه تم تسجيل اسمه على أنه رئيس للوزراء ضمن مخططات الانقلاب، وهو لا علم له بالموضوع، ولكنه هرب إلى لبنان خشية اعتقاله على يد الرفاق "القطريين"، والأطرش بطبيعة الحال كان ينتمي إلى الكتلة القومية التي كان يترأسها ميشيل عفلق. في لبنان تم الضغط على الحكومة حتى تسلم الأطرش، فعرضت عليه الحكومة اللبنانية أن يسافر ويعيش على نفقتها في أي بلد يريده، ولكنه أبى ذلك وعاد إلى سوريا، بعد انقلاب حافظ الأسد بوساطة من موسى الصدر.

الأسد يريده تابعاً!

حينذاك يقول الأطرش إن الأسد حاول جسّ نبضه عبر عبد الحليم خدام الذي عرض عليه عضوية في مجلس الشعب، ولكنه رفض ذلك، ويقول إنه حتى لو جاءه العرض من حافظ الأسد ذاته لكان سيرفض "لأني كنت متمسكاً بالحوار المسبق قبل أي عرض لتحمل المسؤولية".

يقول الأطرش إنه مع مرور الأيام بدؤوا يفهمون استراتيجية الانقلاب الأسدي، خصوصاً عقب تعيين أعضاء ما يسمى الجبهة الوطنية التقدمية، ففي لقاء جمع الإثنين قال الأطرش للأسد لقد قننتم العمل في السياسة وسميتم من له الحق فيه ولم أجد اسمي بين الأسماء، فقال له الأسد "أنتم معنا مكانكم بيننا" ولكن دون صيغة تنفيذية!، وبعد حرب تشرين عام 1973 اجتمع الأطرش بالأسد وحيداً فقال له الأخير "في الحقيقة لم أهتدِ إلى صيغة مناسبة للعمل معاً (..) ولم يكن هناك أية صيغة سوى أن نعلن أننا تابعون لسيادته بلا قيد ولا شرط" ليعتزل بعدها الأطرش العمل السياسي.

منتهى الأطرش!

الثناء على الأسد في هذا الكتاب يمكن حمله على أسباب سياسية ودبلوماسية، إلا أن الاستياء واضح، وخيبة الأمل جليّة، من كل ذلك الجيل، وخصوصاً العسكر الذين تآمروا على بعضهم بعضاً، ولم يتورعوا في سبيل العرش حتى عن تصفية معلميهم ورفاق دربهم، ولم يستطع البعث تمدينهم، وعلى رأسهم حافظ الأسد بطبيعة الحال، الذي لم يتوانَ الأطرش عن وصف حركته "التصحيحية" بالانقلاب.

ومع كل هذا يقال إن سلطان باشا كابنه كان غير راضٍ عن سياسة انقلابيي شباط الذين أفرغوا الجيش من معظم الضباط الدروز بعد المحاولة الانقلابية لسليم حاطوم، وأيضاً محاولة تحميل الدروز مسؤولية سقوط الجولان، وهذا ما قاله الأطرش في كتابه، فضلاً عن الإهمال المتعمد الذي تعرضت له السويداء طوال حكم الأسدين، أضف إليه اغتيال الزعيم كمال جنبلاط.. هذه كلها أسباب دعت ابنة سلطان باشا الأطرش منتهى لتكون في مقدمة المؤيدين لثورة الحرية والكرامة ضد نظام الأسد عام 2011.