كنانة حويجة: وجه للسلام ووجوه للحرب!

2018.07.30 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

            بعد ظهيرة أحد أيام أيلول 2011 تلقى اللواء أحمد اتصالاً غريباً من شقيقه حسين. كان العقيد يصرخ من ألم الإصابة ويخبر أخاه أن «مسلحي الرستن» خطفوه بينما هو في طريقه إلى حماة حيث تمركزت الفرقة 14 التي ينتمي إليها، إثر اقتحام الجيش المدينة في آب. كانوا يطلبون مبادلته بملازم أول منشق اعتقلته قوات النظام. استشاط اللواء غضباً، قائلاً لمحدثيه عبر الهاتف: «ما منطالع ضابط خاين وإرهابي!... خيي عندكن ادبحوه... منعتبره شهيد بالمعركة... فدا صرماية بشار الأسد»!

            لجأ الأسير إلى الاتصال بشقيقه الأصغر، ضابط الأمن في الفرقة التاسعة، لكن المقدم لم يكن يستطيع تجاوز كلام كبير العائلة وصانع مجدها الخاص ضمن عمارة نظام الأسد. عرض الفدية بالمال ووصل إلى مبلغ ضخم، وهو ما رفضه المحتجزون، لينتهي التفاوض ويبقى مصير العقيد مجهولاً منذ ذلك اليوم.

            فيما بعد، سيخرج الضابط المطلوب بصفقة تبادل أخرى، ويصبح أحد القادة العسكريين في الرستن حتى تهجير المقاتلين منها، في أيار 2018، بموجب الاتفاق الذي أسهمت في إبرامه كنانة، ابنة اللواء، كما يدل المشهد الشهير الذي أظهرها، محجبة وصامتة، على يمين ضابط روسي كان يلقي تعليماته على وفد ثوار المنطقة بصلف.

            تنتمي عائلة «حويجي» إلى قرية كلماخو التابعة للقرداحة. وقد أعاق هذا الخطأ الكتابي الذي ارتكبه أحد موظفي النفوس قديماً -تماشياً مع لهجة المنطقة- الخلط الرسمي بينها وبين عائلة اللواء إبراهيم حويجة الشهير، ثاني مدراء إدارة المخابرات الجوية، بعد أن أسهم في تأسيس هذا الجهاز مع اللواء محمد الخولي الذي يتحدر من بيت ياشوط قرب مدينة جبلة، وهي البلدة التي تتبع لها قرية عين شقاق، مسقط رأس اللواء إبراهيم.

ولدت كنانة إبان صدام النظام مع الإسلاميين، وفتحت أعينها على انتصار حافظ الأسد في حماة 1982، ما كرّسه أبا كبيراً يقبع الافتتان به وراء الإعجاب بالأب البيولوجي.

            ولدت كنانة إبان صدام النظام مع الإسلاميين، وفتحت أعينها على انتصار حافظ الأسد في حماة 1982، ما كرّسه أبا كبيراً يقبع الافتتان به وراء الإعجاب بالأب البيولوجي، الضابط الذي كان يرتقي بثبات معتمداً على ثلاثية الولاء والشدة... والفساد، حتى أصبح قائد الفرقة الثالثة، التي كان لها -بقيادة شفيق فياض وقتها- دور مركزي في قمع تمرد الثمانينات. ثم تسلم اللواء أحمد منصب قائد الفيلق الثاني، أحد ثلاثة يتكون منها الجيش.

            نشأت كنانة في دمشق، واكتسبت لهجتها دون أن تندمج فيها. بعد الثانوية اتخذت خياراً ذكورياً بعض الشيء بالدراسة في «المعهد العالي للعلوم السياسية»، الذي يضبطه حزب البعث. عملت، بعد التخرج، مضيفة في الخطوط الجوية السورية، لوقت وجيز، بناء على ثنائية الواسطة والجمال، قبل أن تعلن وزارة الإعلام عن مسابقة لتعيين مذيعات في التلفزيون.

            وهناك بدأت الشابة الطموحة مسيرتها المهنية ببرنامج تاريخي حاولت التميز في إعداده وتقديمه، ثم قادتها ملامحها الصارمة إلى قسم الأخبار، حيث عليها أن تقرأ المكتوب فقط، ولكنها أبت إلا أن تضع بصمتها، ولو بالاستهلال دوماً بقولها «بسلام الله نبدأ»، والختام بعبارة «نترككم برعاية صاحب الحمد». غير أنها لن تعدم، في أجواء العلمانية المستنفرة للإعلام السوري، صحفياً يكتب منتقداً تحويلها الأخبار إلى «برنامج ديني»!

            بعد الثورة ستؤدي كنانة قسطها من «المعركة» عبر برامج حوارية تلتقي فيها مسؤولين و«محللين سياسيين» يرددون الكلام نفسه عن المؤامرة الكونية على البلاد والإرهاب الممول، حتى شاركت في تقديم برنامج «سورية تتحاور» الذي أطلقته القناة الفضائية السورية مطلع 2013، وكان أقرب إلى «التيار الثالث»، يستضيف مثقفين وفاعلين من الموالين و«المعارضين تحت سقف الوطن»، تُطرح فيه القضايا بجرأة نسبية، ويُفتح النقاش حولها مع جمهور مختار مكون من العشرات.

DlJ79BsWsAYe-fb.jpg

            بعد أشهر ستستقل كنانة بالبرنامج وتخرج به من الأستوديو إلى خطوط التماس من جهة القرى الموالية. وهناك لن يبدو أن «سورية ستتحاور» إلا بالسلاح الذي تدعو المذيعة الميدانية إلى توزيعه وتحث شبان البلاد على حمله، مشيدة بتجربة قوات «الحشد الشعبي« في العراق، بينما يحلو لها تكرار جملة «نحن الآن على بعد مئات الأمتار عن المسلحين».

            ستتقلص المسافة مع طلب النظام من المدن والبلدات التي صار يجري معها الهدن، في ريف دمشق، السماح لإعلامه بالدخول، كدليل حسن نية واعتراف ما بالشرعية. سيخبر العميد غسان بلال، رئيس المكتب الأمني للفرقة الرابعة، والمقرب من ماهر الأسد، مفاوضيه من أهالي «المعضّمية» أن عليهم أن يأمّنوا لكنانة حويجة وفريقها فرصة التصوير في المدينة التي كانت تحت حصار شهير، مقابل وعد بتخفيفه وإعادة الكهرباء المقطوعة منذ سنوات. لن ينجح الأمر كما أراد رعاته، رغم أن المحاوِرة القلقة حاولت دفع الناس إلى الحديث عن تحكّم الفصائل وتجار الأزمات، إلا أن النساء طالبن، أمام الكاميرا، بأزواجهن وإخوتهن وأبنائهن المعتقلين. ورغم عمليات المونتاج الفجة وإخفاء الصوت فشلت التجربة وتم تشديد الحصار، لكنها، مع زيارات مماثلة أجراها البرنامج في مطلع 2015، فتحت أفقاً جديداً أمام الإعلامية الباحثة عن التميز.

            بذكائها أدركت كنانة أنه يوجد هنا ما يمكن أن تقدمه لجمهورها. استهوتها مغامرة التصوير «خلف خطوط العدو». اعتادت دخول مناطق «المسلحين»، وأتقنت تسديد الأسئلة ومقاطعة الإجابات وتدويرها. اختبرت تأثيرها على رجال صلبين يعطونها «الأمان»، ولاحظت كيف يمكن اللعب على تناقضاتهم، وكيف يمكن دفع الرماديين في تلك المناطق، والسكان الذين أتعبهم القصف والتجويع، إلى التلفظ بالجملة السحرية «بدنا نعيش»، والمطالبة «بعودة الدولة».

بعد أن زاحمت أرقام أبو عمر وأبو أنس والشيخ خليل العسالي أرقام العميد والعقيد والوزير ومدير مكتب المعلم في موبايل كنانة، أرادت أن ترتقي بسقف طموحها ودورها وعلاقاتها إلى أفق جديد، فقررت أن تفاوض.

            بعد أن زاحمت أرقام أبو عمر وأبو أنس والشيخ خليل العسالي أرقام العميد والعقيد والوزير ومدير مكتب المعلم في موبايل كنانة، أرادت أن ترتقي بسقف طموحها ودورها وعلاقاتها إلى أفق جديد، فقررت أن تفاوض عن نظام كان يقول للكثيرين في هذا المجال: «جرّب»!

            في آب 2016، بعد شهرين من التواصل مع النقيب سعيد نقرش، قائد «لواء شهداء الإسلام»، أنجزت كنانة اتفاقاً طال انتظار النظام له مع داريا التي كانت قد أُنهكت، وأَنهكت الفرقة الرابعة على الطرف المقابل، قضى بإخراج المقاتلين ومن تبقى من السكان إلى إدلب. بعدها كرّت سبحة المفاوضات التي أجرتها؛ في المعضمية وخان الشيح وبرزة وتجمع بيت جن ووادي بردى والغوطة الشرقية، وصولاً إلى التفاوض مع داعش في مخيم اليرموك والحجر الأسود، وأخيراً المشاركة في مفاوضات درعا والقنيطرة.

            تبقي كنانة هذه المهام بعيدة عن الأضواء. وبالفعل، ظلت أخبارها في الظل حتى وقت قريب، عندما انتشرت لها فيديوهات مسرّبة، ووصفت بأنها «مهندسة التهجير»، واتهمها مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان بعرقلة خروج رافضي التسوية في درعا حتى تتقاضى عمولة كالتي زعم أنها بملايين الدولارات سبق أن تلقتها لقاء الاتفاق على إخراج عناصر داعش من المخيم إلى البادية، وهو الأمر الذي عاد إلى التداول مع المجزرة المروعة التي ارتكبها التنظيم في السويداء منذ أيام.

            يروي من فاوضوا المندوبة النشيطة أنها تتمتع بنفوذ يفوق كل من تعاملوا معه من ضباط سوريين، حتى من ذوي الرتب العالية، وأنها تستطيع تهميشهم بسهولة، معتمدة على أنها مفوّضة «من أعلى سلطة بالبلد» كما تقول. تتحدث عن النظام وجيشه وضباطه -تحت «القصر»- بازدراء، وتغالب إظهار احتقارها لقوات الثورة وبيئتها، لكنه يفلت منها في أحيان عديدة. تتقصد إظهار اهتمامها بمصير النساء والأطفال، الذين تستخدمهم كورقة ضغط على الرجال كي يستسلموا أكثر، وأسرع... لا تدّعي امتلاك القرار في اللحظات المفصلية والحرجة، بل تستمهل حتى تراجع «الحكومة» التي ربما تقرر وقف التفاوض ومعاودة القصف للدفع باتجاه شروط أخرى. وأثناء ذلك تتصل سفيرة النظام للنوايا الحسنة بالمفاوض، الواقع تحت القذائف، لتسأل بلهفة بادية: «كيف عيلتك؟ إن شا الله ولادك بخير؟!»...

تعاود الاتصال بمن فاوضتهم بعد أن صاروا في الشمال قائلة «نحن صرنا أصدقاء»! تسأل عن الحياة وعن الأوضاع وعن مخططاتهم، ناصحة: «اطلع على تركيا... هالبلد ما بقى ينعاش فيها... أنا بس خلّص الشغل اللي بإيدي رح آخد بنتي وهاجر»!.

            تميل كنانة إلى التهجير، فهي تعرف البيئة الحاضنة للثورة جيداً، رغم أنها تبرم اتفاقات تتضمن «تسوية الوضع» أيضاً. تتنافس مع الروس على إنجاز «المصالحات» بشروط أقسى من تلك التي يوافقون عليها، وتتعاون معهم مكرهة حين يقتضي الأمر. ذكية ولمّاحة وذات خطاب متزن، رغم أنها قد تفقد أعصابها فتتفاخر: «أنا مهجّرة داريا... أنا مهجّرة المعضمية...». ترفض التوقيع على اتفاقات مكتوبة، وتلاحق تنفيذ التعهدات الشفوية التي أطلقتها باهتمام متوسط ومتفاوت. تعاود الاتصال بمن فاوضتهم بعد أن صاروا في الشمال قائلة «نحن صرنا أصدقاء»! تسأل عن الحياة وعن الأوضاع وعن مخططاتهم، ناصحة: «اطلع على تركيا... هالبلد ما بقى ينعاش فيها... أنا بس خلّص الشغل اللي بإيدي رح آخد بنتي وهاجر»!

            أخيراً، يمكن اختصار «الحرب السورية»، لمن يرغب، بالتسلسل العائلي التالي:

  • في شباط 2018 بدأ جيش النظام، الذي يشغل فيه اللواء أحمد حويجي منصباً رفيعاً، حملة على الغوطة الشرقية.
  • في آذار دخلت كنانة بعض مناطق الغوطة للاتفاق على الإجلاء.
  • في نيسان حصل شقيقها، القادم من موسكو لإجازة الصيف، على ترخيص لتأسيس «شركة بلو» محدودة المسؤولية بريف دمشق، باختصاص الأعمال الإنشائية وتجارة مواد البناء والإعمار والأدوات الكهربائية والآلات والتجهيزات الطبية.
  • وفي تموز شاركت شقيقة أخرى، رسامة، في معرض «شموع السلام» في المركز الثقافي باللاذقية، بلوحة تصوّر امرأة تغلق عينيها بيديها... لا تريد أن ترى!

 

كلمات مفتاحية