كلّما دخلت أمةٌ لعنتْ أختها

2020.12.24 | 23:18 دمشق

ajtma_alljnt_aldstwryt.jpg
+A
حجم الخط
-A

ثلاث خطوات أقدمت عليها الكيانات الرسمية للمعارضة السورية، تركت تداعيات عميقة في أوساط جمهور الثورة، علماً أن هذه التداعيات ربما كانت عديمة الأثر من الناحية الفعلية، أو من حيث النتائج المادية الملموسة، إلّا أن مؤثراتها النفسية والسياسية كانت شديدة الوقع، فضلاً عن أنها قد أدخلت الجميع في مناخ صاخب من الجدل، كما قوّضت ما كان قائماً من قبل، من دعائم الثقة بين تلك الكيانات من جهة، وبين من انحاز إلى الثورة من السوريين من جهة أخرى.

تتمثّل الخطوة الأولى بإصدار الائتلاف في يوم ( 19 – 11 – 2020 ) القرار رقم (24 ) الذي يقضي بإنشاء مفوضية انتخابات، الغاية منها تدريب السوريين وتأهيلهم على إدارة العملية الانتخابية وكيفية التعاطي معها، وقد نظر الجمهور العام إلى هذه الخطوة على أنها خطوة تمهيدية تحمل في تضاعيفها إيذاناً بقبول الائتلاف المشاركة في انتخابات الرئاسة المقبلة التي سيجريها بشار الأسد في شهر نيسان القادم، الأمر الذي أثار ردّة فعل حادّة تجاه من أصدر القرار، فضلاً عن حالة الارتباك الشديد التي أحاطت بأعضاء الائتلاف حيال تبرير ما حصل، ما دفع برئاسة الائتلاف إلى الإدلاء بتوضيحات عديدة، ومن ثم إلى تجميد القرار وليس إلغاءه.

وفي غمرة الجدل والصخب المُثار جماهيرياً حول القرار المذكور، عقدت اللجان المصغرة للجنة الدستورية لقاءها الرابع في جنيف (11 – 12 – 2020 )، وقد تمخض عن هذا اللقاء صدور وثيقة عن وفد المعارضة، تضمنت بنوداً مثيرة للجدل، وباعثة على القلق في الوقت ذاته، لعلّ أبرز تلك البنود تتمثل باقتراح تشكيل هيئة خاصة باللاجئين، وأخرى تعنى بشؤون المعتقلين، دون أن يتضمن هذا البند إشارة إلى أن يكون التعاطي مع هاتين القضيتين - اللاجئين والمعتقلين – وفقاً للقرار 2254، فضلاً عن خلوّ الوثيقة من الإشارة إلى ضرورة تحديد صلاحيات رئيس الجمهورية ومسألة العدالة الانتقالية وإعادة هيكلة الجيش وأجهزة المخابرات إلخ، وقد أحدث صدور تلك الوثيقة – في حينه – جدلاً عنيفاً وردود فعل صاخبة لدى الشارع العام، لعلّها جعلت الناس تنسى حنقها على قرار الائتلاف، لتوجهه نحو اللجنة الدستورية، ما دفع بالرئيس المشترك لوفد المعارضة إلى إصدار توضيح لما جاء في الوثيقة، في محاولة لاحتواء ردود الأفعال الغاضبة.  

نظر الجمهور العام إلى هذه الخطوة على أنها خطوة تمهيدية تحمل في تضاعيفها إيذاناً بقبول الائتلاف المشاركة في انتخابات الرئاسة المقبلة التي سيجريها بشار الأسد

واستكمالاً لأعمال اللجنة الدستورية في لقائها الرابع، قدّم المبعوث الدولي السيد غير بيدرسون يوم 16 – 12 – 2020 ، إحاطته أمام مجلس الأمن، والتي تتضمن تقييمه لأعمال اللقاء المذكور، وقد تضمنت تلك الإحاطة مصطلحاً ورد في إحدى الأوراق التي قدّمها وفد ( المجتمع المدني) وهذا المصطلح هو (العدالة التصالحية) كبديل لمصطلح ( العدالة الانتقالية)، ما جعل الإثارة والصخب تتجدّدان للمرة الثالثة، وعادت ردود الأفعال تتالى، وبخاصة من رجال وخبراء القانون، الذين يوضحون الفرق الهائل بين المصطلحين، إذ إن الأول يقضي بالالتفات إلى الضحية ويعفي الجاني من تبعات فعله، بينما الثاني يؤكّد على محاسبة الجناة كشرط لتحقيق العدالة، ما دفع بعدد من أعضاء اللجنة الدستورية، ممن ينضوون في وفد ( المجتمع المدني) إلى إصدار توضيحات وتعقيبات، تارة تدّعي أن اللبس مصدره الترجمة الإنكليزية للورقة، وتارة تنفي ورود هذه العبارة نفياً كاملاً، وتلقي تبعات ورودها على فريق الصياغة التابع لبيردسون، وقد تزامن ذلك مع انزياح حالة الغضب المنشغلة بوثيقة السيد البحرة، لتتركّز من جديد على وفد المجتمع المدني.

ما يمكن الوقوف عنده بإمعان حيال الخطوات الثلاث المذكورة، هي السمات المشتركة التي تضمنتها ردود أفعال أصحاب القرار، أو ممن هم في واجهة المشهد، كممثلين لقضية السوريين، سواء أكانوا في الائتلاف أو في اللجنة الدستورية، ولعل من أبرز تلك السمات هي التالية:

1 – إن الخطوات الثلاث الصادرة عن الكيانات الرسمية ( قرار الائتلاف رقم 24، ووثيقة وفد المعارضة في اللجنة الدستورية، وورود مصطلح العدالة التصالحية في ورقة وفد المجتمع المدني) قد أعقبها جميعها إيضاحات، سواء مكتوبة في وسائل الإعلام أو عبر وسائل التواصل، من أصحاب القرار أنفسهم، ولم تصل نصوصها الأصلية إلى الجمهور العام بالشكل المطلوب، وهنا يبدو السؤال محقاً حول طبيعة تكرار هذا الخلل، إذ من المفترض في أيّ قرار صادر عن جهة رسمية أو اعتبارية، أن يكون نصّه واضح الهدف ودقيق الصياغة، بعيداً عن أي التباس، ولا يحتمل تعدّد التفسيرات أو التأويل، علماً أن كياني الائتلاف واللجنة الدستورية يعجّان برجال القانون وحملة الشهادات، فهل هؤلاء قد حُجبت عنهم تلك القرارات الصادرة عن كياناتهم، أم ليسوا معنيين بهكذا أمور؟

2 – يكاد يُجمع أصحاب القرار في ردود أفعالهم على غضب الشارع، على أن المشكلة دائماً تكمن في الفهم الخاطئ للناس، ذلك الفهم الذي لم يستوعب ماهية ما تتضمنه تلك القرارات، ووقف عن القشور، ولم يستطع النفاذ إلى جوهر المراد من النص، ولعلّ هذا الإجماع يفترض وجود أحد أمرين، أو كلاهما معاً، يقضي الأول بوجوب حيازة الجمهور العام من القراء على أصول منهج ( الغنوص) في القراءة، حتى يستطيع تمييز الظاهر من الباطن في أي قرار يصدر من تلك الكيانات. ويقضي الثاني بوجود بون معرفي وثقافي كبير بين أصحاب القرار أو مصدّريه، وبين عامة الناس، وعلى الناس أن يرتقوا بوعيهم معرفياً وثقافياً حتى يفهموا ما يقول رؤساؤهم، وفي كلتا الحالتين، ثمة ما يثير السخرية الممزوجة بكثير من المرارة.

3 – كما يُجمع أصحاب الخطوات المثيرة، على أن سبب تلك الإثارات أو (المشاغبات) وفقاً للبعض، هو الوجود السابق لسوء النيّة لدى عامة الناس، بل إن سوء النيّة غدا ثقافة عامة لدى أكثر الناس، ما جعل عبارات التشكيك والتخوين والحشد والتحريض تتفوّق على المقاربات الموضوعية المنطقية. ولعلّ هذه المسألة تحيل أيضاً إلى أحد أمرين: يقضي الأول بأن تكون ( النية السيئة) هي حالة فطرية لدى عامة الناس، وهذا ما يرفضه المنطق السليم، ويقضي الثاني بأن سوء النية باتت إحدى ردّات الفعل الثابتة حيال كل ما يصدر من كيانات المعارضة، وهذا – إن كان صحيحاً – فصحّته لا تعني أنه ولد فجأة، أو هو حالة مباغتة ومحايثة لأية واقعة، بل هو نتاج مسار تراكمي من سوء العلاقة بين قيادة المعارضة والجمهور العام، فهل يتوجب على القيادة أن تبادر لإصلاح تلك العلاقة، إن ظلّ ما يمكن إصلاحه، أم تعمل على استبدال الجمهور بشعب آخر أكثر تجانساً؟ّ!.

طرائق التفكير المتماثلة لدى المعارضات السورية ربما أفلحت في حيازة مظلومية تبدو ضرورة، أو حائط صدّ أمام حملات التشكيك والتخوين التي تحوّلت في كثير من الأحيان إلى حالات تنمّر حقيقي وفقاً للعديد من قيادات المعارضة، وذلك بموازاة مظلومية سابقة يتمسّك بها أكثر السوريين حين يعبرون عن سخطهم على المعارضة والعالم أجمع الذي ساهم سكوته في تعزيز مأساتهم واستمرارها، إلّا أن حال المظلوميتين معاً سيبقى كالخطين المتوازيين، ما لم يغادر كل منهما الفضاء الداكن لمظلوميته، ليفكّر في فضاءات أكثر نقاءً وسطوعاً.