قبل ست سنوات، أقدم متعهدُ بناء على إغلاق البوابة اليمينية الصغرى للباب الشرقي في دمشق بالبلوك. حدث ذلك في وسط حالة سورية مضطربة، ربما راهن عليها ذلك الشخص، إذ ربما قال في نفسه: "من سيلتفت لهذا بينما الحرب لا تزال ترخي بأفعالها على الجميع؟".
غير أن ما قوبلت به الخطوة كان غير متوقع، إذ تشارك السوريون، في ضفتي الصراع، مؤيدون ومعارضون، هجوماً قاسياً على الفاعل، وعلى الجهة التي منحته الرخصة، وعلى الأوضاع الرديئة التي جعلت هذا وغيره، يستغلون الظرف الصعب، من أجل المساس بالأثر الدمشقي، الذي يُذكر عادة بين عدد من الأبواب التاريخية، يقول بعض السوريين إنها سبعة، ويزيد عليها بعضهم الآخر بثلاثة، لتصبح عشرة. لكن باب شرقي، يثبت دائماً في واسطة العقد، فهو أكبرها، وتعلوه مئذنة بيضاء جميلة، لطالما أثارت المخيلات قصصاً حولها.
تراجع المتعهد عما فعل، وعادت البوابة الصغيرة إلى وضعها السابق، لكن السؤال حول حماية الآثار السورية بقي حاضراً، طالما أن ثمة جهة رسمية ما تتواطأ مع أشخاص أو مع جهات، فتمنحها الموافقة على المساس بالآثار، لغاية ما.
دمشق، ورغم كل ما تم تخريبه فيها على مدى العقود السابقة، بقيت تحافظ على صورتها، بأبوابها وسورها وقلعتها، وغير ذلك من عناصر تكوينها الخاص، كأقدم عاصمة في التاريخ، لكن هذا الثبات في وجه النوائب لا يعود للأحجار الصماء، بل يرجع إلى حاجة الدمشقيين أنفسهم إلى تخليد مدينتهم، فهي ورغم التشوهات هنا وهناك لا تزال حاضرة الشرق، التي تستحق أن يُسجل كل ما فيها في لوائح التراث العالمي، ودونها لن يكون للشخصية "الشامية" معنى؛ فالدمشقي أو الدمشقية، هما في كل زقاق أو حارة أو شارع، وكل جدار جالس أو مائل، وكل نافذة أو بوابة، وإذا أتى أحد أو جهة ما، على عمل يقوض عنصراً من مكونات المدينة، فهذا يعني أن الخطر بات أكبر مما يمكن توقعه.
الجامعة، وبحسب موقعها على شبكة الإنترنت تعود ملكيّتها إلى بطريركيّة الروم الملكيّين الكاثوليك بحسب المرسوم التشريعيّ رقم 6/2019 الصَّادر عن رئيس النظام بتاريخ 7/5/2019 وقرار وزارة التعليم العالي رقم /53/. ويمكن ملاحظة أن خطوة إنشاء هذا الصرح العلمي، لم ينشأ عنها أي اختلاف أو نقاش من قبل الأوساط السورية المتعددة، والتي اعتادت المجادلة حول أقل الأشياء.
غير أن أحداً لم يسأل عن مقر الجامعة، وهل اختار أصحابها فضاءً تنطبق عليه المواصفات والشروط اللازمة، التي تفرض عادة على أصحاب المشاريع المماثلة؟ التحري عن المكان ذهب بنا، نحن الذين نعيش خارج البلاد، إلى اكتشاف أن البطريركية، اختارت أن يكون مقر الكلية في متناول يدها، أي في حارة الزيتون قرب باب شرقي، حيث تقع أبرشية دمشق للروم الملكيين الكاثوليك، أو الكرسي البطريركي الانطاكيّ في دمشق، وأن تكون بلصق كاتدرائية سيدة النياح، في المكان الذي افتتح في العام 1950 تحت اسم معهد الفضيلة والعلم، ثم تحول في وقت لاحق إلى مدرسة عامة تحت سلطة وزارة التربية، درس فيها عشرات الآلاف من طلبة الإعدادية والثانوية لعقود، تحت اسم ثانوية العناية الرسمية، قبل أن يُعاد لأصحابه، ليفتتح فيه مركز للتنشئة المسيحية في العام 2006.
يتذكر كاتب هذه السطور أثناء سنوات دراسته فيه، بين عامي 1980 و1985 أن الفعالية فيه كانت مشتركة بين الإعدادية والثانوية من جهة، وبين الدير التابع للأبرشية؛ ففي المبنى الرئيس، تُرك الطابق الأخير ليكون سكناً لطلبة العلم الذين تتكفل بهم الكنيسة، بينما كانت صفوف الثانوية تستغل الطوابق الباقية، وعلى جهة اليسار من المكان كان ثمة طابقين شغلتهما صفوف الإعدادية، وبقي القبو لتعمل فيه الراهبات كمطبخ.
ومن خلال نوافذ صفوف الطابق الثاني، كان الطلبة يلقون نظرهم نحو سور دمشق، الملاصق للمكان، وحين كانت رائحة الطعام المتصاعدة من القبو، تتسبب بقرقرة بطونهم، كانوا ينظرون إلى الأسفل، حيث كان ثمة بوابة صغيرة جداً، يبدو أنها أبقيت لخدمة المكان، خلال عملية ترميم سور دمشق، والتي أعادته إلى الحياة، بعد ما أصابه من تهدمات، خلال قرون سابقة.
ربما، ليس من المفيد الحديث عن ضيق المكان، وعدم صلاحيته، ليكون مقراً لجامعة طموحة، بحسب ما وضعه أصحابها لها من خطط، لكن الشيء الصادم الذي لا يمكن إلا أن يحكي عنه المرء، إنما هو إقدام أصحاب المشروع على هدم جزء من سور دمشق، من أجل فتح بوابة كبيرة تسمح لمرور السيارات، حيث أظهر الفيلم الترويجي الذي نشرته الكلية في صفحتها على فيس بوك، ساحة المكان مزدحمة بالسيارات "السياحية"، وكان السؤال حول الطريقة التي دخلت عبرها الآليات إلى المكان هو ما قادنا إلى اكتشاف ما تم فعله فيه. حيث يظهر لكل من يمر في المكان، أن السور التاريخي لدمشق المسجل في لوائح التراث العالمي قد جرى المساس به من قبل إدارة كلية اللاهوت!
تُصنف حارة الزيتون، التي تقع فيها الكلية على أنها واحدة من أجمل الأمكنة في دمشق، لكن مأساة المنطقة، لا تنتهي بالاعتداءات التي تقع على أبنيته القديمة، بل إنها تستمر من خلال ترك الطريق الطويل، ولاسيما الجزء الواصل بين باب شرقي والقشلة، مفتوحاً أمام حركة السيارات، مما يحول الفضاء هنا، إلى مسرح لدخان عوادم السيارات، إضافة إلى مضايقتها لحركة العابرين.
فإذا كانت كلية اللاهوت العتيدة تحتاج إلى مرآب، فإن هذا الأمر كان يقتضي، إما أن يتم تغيير المكان أو إيجاد حلول مختلفة، عن التجرؤ على هدم جزء من سور دمشق.
التفكير بالفعل الذي اقترفه أصحاب الكلية، يجعلنا نسأل وبوضوح عن الفرق بين أن يقوم أحد ما بإغلاق باب من أبواب دمشق بالأسمنت، وبين أن تقوم جهة ما بفتح بوابة في السور المحمي أصلاً، وبما يمنع المساس به.
من أعطى للكلية سلطة على هذا الأثر الدمشقي كي تزيل، وبوضح النهار، جزءاً منه لغايات تخصها ولا تخص الدمشقيين والسوريين بعامة؟
يحتاج الأمر إلى أجوبة، يبدو أنها ستكون عصية طالما أن المكان يبدو محمياً بسلطة عليا تُفصح عنها لوحة بيضاء تم تثبيتها في بهوه، وتوضح أنه مشمول برعاية بشار الأسد وزوجته، منذ تاريخ افتتاحه في تشرين الثاني عام 2021.