كفتارو وحافظ الأسد.. و"المجد الديني" الذي لم يتحقق

2023.06.01 | 06:55 دمشق

كفتارو وحافظ الأسد.. و"المجد الديني" الذي لم يتحقق
+A
حجم الخط
-A

"طموح كفتارو لم يكن طموحاً سياسياً، أي لم يكن يبحث عن سلطة أو يريد تأسيس دولة. هو كان يبحث عن (مجد ديني)".. عبارات توقفتُ عندها مطولاً، قالها الباحث والمفكّر الإسلامي محمد حبش، في واحدة من حلقتين، استُضيف فيهما، في سياق برنامج "الذاكرة السورية" على قناة "تلفزيون سوريا". وقد تناولت الحلقة الأولى، مطوّلاً، معلومات حبش عن طبيعة العلاقة التي ربطت مفتي سوريا السابق، لأكثر من أربعة عقود، أحمد كفتارو، مع حافظ الأسد.

وقد تابعتُ حديث حبش، باهتمام كبير. إذ من المثير فهم الكيفية التي كان يفكّر بها رجلٌ كـ كفتارو، حيال علاقته برجلٍ كـ حافظ الأسد. من أي زاوية كان ينظر كفتارو لهذه العلاقة؟ وكيف يمكن لرجل دين أن يبرر –لنفسه على الأقل- استفادته من العلاقة مع سلطة مستبدة ارتكبت كماً كبيراً من الجرائم بحق شعبها؟

وربما قدّم حبش، عن قصد أو عن غير قصد، جواباً شافياً لمراقب خارجي مثلي، لم يسبق أن امتلك خبرة حياتية قريبة بشكل كافٍ، من "الشبكة العلمائية الدمشقية"، وفق التسمية التي استخدمها ذاك التحقيق المميز لـ موقع "ميدان" التابع لشبكة الجزيرة، والمنشور عام 2018. ففَهمُ طريقة تحليل رجل دين مقرّب من السلطة، لموقعه من جرائم تلك السلطة، أمر لطالما أثار فضولي.

بطبيعة الحال، هناك أجوبة رائجة كثيرة عن هذا اللغز. إحداها، تلك القاعدة الفقهية التقليدية، المتعلقة بـ "اعتزال الفِتن". ويدعمها، أيضاً، تلك القاعدة الفقهية الأشعرية الشهيرة، بعدم جواز الخروج على الحاكم. أما شعبياً، فيمكن تفسير ما سبق بـ "النفاق"، وعدم سلامة النيّة. ويتم توصيف هذه الفئة من رجال الدين، بـ "علماء السلاطين". وعادةً ما يفقدون مصداقيتهم الشعبية، بعد سنوات من خدمة الحاكم. وهو ما استند إليه تحقيق موقع "ميدان" المشار إليه، في تفسير انقلاب موقف السلطة في عهد بشار الأسد، من حلفاء والده في الفضاء الديني، -ورثة "كفتارو"، وورثة "الفرفور"- لصالح خصومهم من رجال الدين، من "جماعة الميدان" و"جماعة زيد"، خلال العقد الأول من حكم الأسد الابن.

شق كفتارو صف "مشايخ دمشق"، ودعم رياض المالكي، مرشح البعث، ضد مصطفى السباعي، مؤسس الإخوان المسلمين السوريين

لكن اللافت في مسيرة أحمد كفتارو، أنه لم يكن ممالئاً لـ حافظ الأسد، تحديداً. بل نشأت علاقته بالبعثيين، منذ العام 1957، على عتبة انتخابات نيابية سورية. حينما شق كفتارو صف "مشايخ دمشق"، ودعم رياض المالكي، مرشح البعث، ضد مصطفى السباعي، مؤسس الإخوان المسلمين السوريين. ومنذ ذلك التاريخ، توطدت هذه الصلة بين كفتارو والبعث، الذي دعمه كمفتٍ للبلاد، منذ وصوله للسلطة عام 1963. وأصبحت تلك الصلة أعمق أكثر، مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة بانقلاب العام 1970.

وفي تفسيره لتوصيف "المجد الديني"، الذي استهدف كفتارو تحقيقه من علاقته التاريخية بحزب البعث، وبنظام الأسد لاحقاً، قال حبش إن كفتارو كان يحلم بتأسيس حركة دينية قوية منافسة للحركات الدولية القوية كالأزهر، ورابطة العالم الإسلامي. لكن حبش نفسه، أقرّ بأن ذاك الحلم، الذي خرج إلى الواقع مجسداً بمجمع "أبو النور" الإسلامي، في قلب دمشق، منتصف السبعينيات، باء بالإحباط، ولم يلق الدعم المأمول من السلطة، وانتهى ليكون مدرسة شرعية، كأي مدرسة أخرى، لم تنج من التقليد واتباع السلف، وتقييد أي محاولات للاجتهاد وتطوير الفقه الإسلامي بما يتلاءم مع العصر. والأدهى من ذلك، أن هذا "المجد الديني"، الذي كان يبتغي منافسة "الأزهر"، كان ينوء بثقل المناهج الدينية التقليدية التي كان "الأزهر" ذاته، يعتمدها، والتي كان كفتارو، وفق حبش، ينتقدها، في وقتٍ من الأوقات.

بطبيعة الحال، لا يحق لنا محاكمة نيّة الرجل، وهل كان يبحث عن "مجد ديني" حقاً، أم عن "مجد شخصي"؟ لكن تجربة كفتارو كفيلة بطرح النقاش حول دور رجال الدين في السياسة، وسلبياته. فالأسد الأب كان يحتاج لغطاء من الفضاء الديني السُني، لدعم وجوده في قمة هرم السلطة. فحقق أهدافه جميعها من تحالفه مع كفتارو. أما الأخير، فكان أقرب للأداة، ولم يحقق "المجد الديني" الذي أمله، وفق حبش. إن أردنا القول بسلامة النيّة.

الشيخ لم يتورط في السياسة فقط، بل وتورط في التحريض على عملية انقلاب عسكري، مخالفاً قاعدة أصيلة في الفقه التقليدي، تقوم على اجتناب الفتن

واللافت أكثر في حديث حبش، الذي لم يخفِ إعجابه بأستاذه، أن كفتارو كان دائماً يقول لمريديه "لا تتدخلوا في السياسة". وكان يضيف: "اشتغلوا في واجبكم، واتركوا السياسة لأهلها". فهل كان يقصد بأهلها، العسكر الذين وصلوا إلى السلطة بانقلاب؟! يزداد حجم الدهشة من تناقضات الشيخ الراحل، وفق شهادة حبش، أنه حرّض حافظ الأسد على الإسراع بتنفيذ انقلاب العام 1970. أي أن الشيخ لم يتورط في السياسة فقط، بل وتورط في التحريض على عملية انقلاب عسكري، مخالفاً قاعدة أصيلة في الفقه التقليدي، تقوم على اجتناب الفتن. هذه القاعدة، تحولت لتكون الأساس الذهبي الذي استند إليه كفتارو، في تبرير سكوته عن جرائم النظام في حقبة الثمانينيات. فكانت الذريعة، تجنب امتداد "الفتنة" إلى كامل البلاد.

وهكذا تميّز كفتارو بكل السمات البراغماتية للساسة المخضرمين. فقد أتقن فن بناء التحالفات مع الأقوياء، بغية البقاء أكبر فترة ممكنة في سدّة هرم "الفضاء الديني" في سوريا. ومن هذه الزاوية، يمكن الإقرار بتميّز كفتارو كسياسيّ. أما كرجل دين، فإن موقعه السلبي في ذاكرة شريحة كبيرة من السوريين، قد يكون خير حَكَمٍ عليه.