كردستان العراق: البلاد الناهضة من تحت الأنقاض -1

2019.03.05 | 23:03 دمشق

+A
حجم الخط
-A

على مدى يومين (1-2 آذار) ناقشت هولير - أربيل؛ عاصمة إقليم كردستان العراق "الأمن والسيادة في الشرق الأوسط". وذلك في النسخة الأولى من المنتدى السنوي الذي نظّمه "مركز روداو للدراسات" وكان لي شرف المشاركة فيه. دعي إلى هذا المنتدى العديد من الأكاديميين والباحثين والسياسيين والدبلوماسيين من كردستان، العراق، تركيا، إيران، سوريا وأوروبا. وما لفت انتباهي مشاركة دبلوماسيين وموظفين في الخارجية التركيّة، ومراكز أبحاث ودراسات مقرّبة من الحكومة التركيّة والحزب الحاكم، إلى جانب دبلوماسيين إيرانيين، ومراكز أبحاث في طهران، ناهيكم عن بعض العراقيين الدائرين في الفلك الإيراني أيضاً. هذا الحضور المتنوّع واللافت والمهم من المشاركة، عكس أهميّة المنتدى، وأهميّة المكان أيضاً والزمان أيضاً، لجهة أن كردستان تسعى إلى أمن واستقرار العراق ودول الجوار، بالضد من كل الكلام الغوغائي والغرائزي الذي قيل ويقال عن الكرد وكردستان وأنهم عامل عدم استقرار، وعامل تهديد لتركيا وإيران وسوريا والعراق! وأنهم دعاة تقسيم وتفجير المنطقة، و"إسرائيل ثانية"...إلى آخر هذه الاتهامات المجّانيّة والتافهة. وذكرت ذلك في المنتدى، أنه على العراق وتركيا وإيران التقاط هذه الإشارة - البادرة من الجانب الكردي، بشكل إيجابي وترحيب. وأنه من المفترض أن نشهد لاحقاً في أنقرة وطهران منتديات ومؤتمرات مماثلة، تتناول أهميّة كردستان العراق، كإقليم فيدرالي؛ سياسيّاً واقتصاديّاً وأمنيّاً وثقافيّاً، لكل من إيران وتركيا.

ناقشت جلسات اليوم الأوّل من المنتدى المحاور التالية: 1 - "العراق، أرض الصراعات أم نقطة التفاهم؟". 2 - "آفاق السياسة الداخلية العراقية، تباعد أم توافق؟". 3 - "العراق والوضع الأمني غير المحلول!". بينما ناقشت جلسات اليوم الثاني المحاور التالية: 1- "سوريا ونماذج الاستقرار". 2 - "تركيا وعقبات المستقبل". 3 - "إيران في الأجندات الدولية". واختتم المنتدى بجلسة حوارية مفتوحة، هي أقرب إلى الطاولة المستديرة، عقدت تحت عنوان: "طرق حل المسائل الأمنية والسيادية في الشرق الأوسط".

 

من الأفكار والأسئلة والملاحظات التي طرحتها في جلسات المنتدى، أو في النقاشات الجانبية مع المشاركين:

- حين يكون العنوان العريض لهذا المنتدى "الأمن والسيادة" هذا يعني أن هناك مشكلة حقيقيّة في مفهومي "الأمن" و"السيادة" في بلدان المنطقة، ينبغي مناقشة

تقترف إيران أضعاف ما تقترفه تركيا في العراق، ولا يقول العراقيون كلمة واحدة بحق إيران!

أسبابها وتجليّاتها وتبعاتها، بكل وضوح وصراحة وجرأة، تمهيداً لوضع الحلول الممكنة. ومن المؤسف القول: إن مشاكل الأمن والسيادة، في جزء كبير منها، تتحمّلها الأنظمة الحاكمة في هذه البلدان، والنخب الدائرة في فلكها. على سبيل الذكر لا الحصر: الطبقة السياسية الحاكمة في العراق منذ 2003 وحتى الآن، تنتقد تركيا بسبب انتهاكاتها واعتداءاتها على السيادة العراقيّة، والخروقات الأمنيّة التي ترتكبها تركيا في العراق. وهذا صحيح، وواجب على العراقيين قوله، وبل التعبير عن الشجب والإدانة ايضاً. ولكن ما هو غير طبيعي، أن تقترف إيران أضعاف ما تقترفه تركيا في العراق، ولا يقول العراقيون كلمة واحدة بحق إيران! إذ لم أجد حتّى الآن ولو بياناً رسمياً واحداً، (منذ 2003 وحتى اللحظة)، يدين إيران في أي خرق أو انتهاك للسيادة والأمن العراقيين! كذلك نظام الأسد، يدين تركيا على أفعالها في سوريا، ويشرعن نفس الأفعال التي تقترفها إيران في سوريا! ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أن الأنظمة الحاكمة، ضالعة في انتهاك أمن وسيادة البلدان التي تحكمها!

هذه الفكرة، أثارت انزعاج بعض الإيرانيين والعراقيين الموجودين. ما دعا أحد الحاضرين إلى نفيها، وأن هذا كلام مسيّس، ويخدم أغراض وأجندات. ما دفعني لمقاطعته، ضمن جلسة رسميّة والقول: "هل أصدقّك، أم أصدّق تصريحات قادة الحرس الثوري الايراني التي تتحدّث عن وجود إيران، وانتصارها في اليمن، لبنان، سوريا والعراق؟! ماذا يفعل الحرس الثوري في اليمن؟ هل اليمن على حدود إيران؟! في هذه الجلسة يوجد إيرانيون، قادرون على الدفاع عن أنفسهم، فلماذا تتولّى أنت ذلك؟!".

***

- وجود كردستان العراق، كإقليم فيدرالي، بات مصلحة تركيّة إستراتيجيّة كبرى، لأكثر من سبب: الأرقام التي يفصح عنها حجم التبادل التجاري بين أنقرة وأربيل، تؤكد ذلك. ومن جانب آخر؛ السنوات من 1992 ولغاية 2003، ومن 2003 ولغاية 2019، أسقطت تلك الخرافة والحكاية الكاذبة التي تقول: وجود فيدرالية كردية على الحدود مع تركيا وإيران، ستهدد أمن واستقرار البلدين الجارين. وأن تركيا ستنقسم، وكذلك إيران. هذه الثرثرة الببغائيّة، أسقطتها معطيات هذه السنوات في تركيا. على العكس منذ ذلك تماماً، هذه الفيدرالية الكرديّة، في حال تعرّضها للتهديد والخطر، فإن مصالح تركيا الاقتصاديّة المتنامية في كردستان ستكون في خطر، ناهيكم عن أن الأمن والاستقرار في تركيا وإيران، سيكونان مهددين تماماً. لذا، ذكرت في الجلسة الختامية: "على تركيا وإيران المحافظة على كردستان العراق، حفاظهما على نور أعينهما".

- حاول البروفيسور. د. أحمد أويسال؛ رئيس مركز أورسام للدراسات، نفي وجود مشكلة تركيّة مع الكرد، مؤكّداً على "أن مشكلة تركيا هي مع الإرهاب (العمال الكردستاني) وليست مع الكرد وحقوقهم"! كان ذلك أثناء حديثه عن أزمات تركيا، وتدخّلاتها في سوريا، وتعليقه على الانتهاكات والاعتداءات التي تقوم بها الميليشيات التكفيرية - الجهادية في عفرين، تحت سمع وبصر جيش الاحتلال التركي. فكان لي التعليق التالي على كلامه:

- "سأحاول جهاداً، كي أصدّق كلامك على أنه صحيح، وأن مشكلة تركيا هي مع الإرهاب (PKK) وليست مع الكرد وحقوقهم! وفي سياق محاولاتي تصديق كلامك، سأورد لك مثالاً "يؤكد" و"يدعم" مقولتك: قبل فترة، منعت تركيا نشر وطباعة وتوزيع جريدة "باسنيوز (BasNûçe)" التي كانت تصدر في تركيا، وهي جريدة مموّلة من قبل كردستان العراق، وتنتقد (PKK)، ومع ذلك، منعت تركيا طباعتها ونشرها! هل يمكن أن تفسّر لي لماذا؟! تركيا منذ 40 سنة تقريباً وهي تحاول حسم القضية الكردية بقوة السلاح والعنف، تحت مسمّى مكافحة الإرهاب. هل نجحت في ذلك؟ 40 سنة من الحرب والقتال والعنف، أليست كافية كي تقتنع تركيا والنخب الموالية للحكومة بأن الحل العسكري أفلس، ولن ينجح هذا الأسلوب حتى بعد مرور 40 سنة أخرى؟ منذ تأسيس الجمهوريّة التركيّة وحتّى هذه اللحظة، مرّ على تركيا رئيس جمهوريّة واحد فقط. هو المؤسس الحقيقي للإصلاح والنهضة في تركيا، هو الذي كان يحبّ تركيا ويريد أن يتم حلّ القضيّة الكرديّة بشكل جدّي وحقيقي وصميمي، ودفع حياته ثمناً لذلك. إنه الرئيس الراحل تورغوت أوزال. تركيا بحاجة إلى تورغوت أوزال جديد، قادر على إنقاذ البلاد من أزماتها مع الكرد ومع الجيران".

وهنا، يمكن أن أعطي السيّد أويسال مثال آخر، بسيط، حال ضيق الوقت في الندوة عن ذكره، رغم أنني دوّنت المثال على ورقة: "حين تبدأ الخطوط الجويّة التركيّة، بثّ دعاياتها بالكرديّة، والترحيب بالمسافرين الكرد، أسوة باللغات؛ العربيّة، الفارسيّة، الروسيّة، الإنكليزيّة، الألمانيّة...، بخاصّة في الرحلات الجويّة المتّجهة نحو كردستان، وقتذاك سنتأكّد أن السيّد أويسال على حقّ. وأن مشكلة تركيا ليست مع الكرد، بل مع "الإرهاب"! على العثمانيين الجدد الاقتداء بأجدادهم العثمانيين القدامى، في العلاقة مع الكرد وكردستان. دعائم وروافع أمجاد العثمانيين القدامى كانوا الكرد. وكذلك ولادة الجمهورية التركيّة أيضاً كانت على أكتاف الكرد. ولكن، للأسف، في تركيا، العثمانيون الجدد، ليسوا عثمانيين حقيقيين، بل هم خليط من الكماليست والفكر الإخواني. العثمانيون القدامى لم يكن لديهم أيّة مشكلة مع الكرد. على زمن السلطنة العثمانية كان هناك عدة كردستانات (إمارات كرديّة شبه مستقلّة) تابعة للمركز العثماني - الآستانة.

كذلك ما لفت انتباهي، وأثار إعجابي أن الدبلوماسيين الأتراك، والدكتور أويسال، مِراراً ذكروا في مداخلاتهم وتعليقاتهم كلمة "كردستان" و"كردستان العراق" بالضد مما ينشره القسم العربي من وكالة الأناضول أو قناة "TRT التركيّة" الناطقة بالعربيّة، إذ تطلق هذه المؤسسات التركيّة وصف "شمال العراق" وتتجنّب ذكر "كردستان العراق" رغم العلاقات الاقتصادية والسياسية المتنامية بين أربيل وأنقرة، وأن الأخيرة لها تمثيل دبلوماسي قنصلي في هولير. ومع ذلك الإعلام التركي الناطق بالعربيّة والذي يسيطر عليه الإخوان المسلمون من سوريا، مصر، فلسطين، (مع وجود بعض العلمانيين، لزوم الديكور) ما زال ينظر إلى كردستان وحقوق الكرد بأعينهم "العروبيّة - الإسلامويّة" وليس بأعين تركيا ومصالحها.

في لقاء جانبي، جرى في فترة الاستراحة، ذكرت لأحد الضيوف الأتراك أنني أريد التحدّث إليه، خارج ما قيل في الندوة. فقال لي: "لماذا أنت حاقد على تركيا؟! لماذا لا تنتقد إيران، كما تنتقد تركيا؟!". أجبته: "لا أزايد عليك في محبّة تركيا. ولكن لي في تركيا، ربما أكثر ما لك فيها. عظام جدّي وأبي وأخوالي، تحت تراب كردستان تركيا. وأنا أنتقد إيران، ليس كي أنال رضاك. بل لأن إيران دولة مثيرة

كان يجب على تركيا أن تكون أوّل المدافعين عن ضم كركوك إلى كردستان. لأن أنقرة ستكون المستفيد الوحيد من ذلك

للأزمات والصراعات في المنطقة. لكن دعنا من كل ذلك. هناك ما أعتقد أنه أكثر أهميّة، أودّ قوله لك: في تركيا، ثمّة شيء مشترك، يجمع العلمانيين والإسلاميين، هو الميثاق المللي الذي يعتبر كركوك والموصل جزءا من تركيا. أجابني "صحيح". فقلت: "بموقفكم السلبي ضدّ الاستفتاء في كردستان العراق، قمتم بتسليم كركوك والموصل وكل العراق إلى إيران. كان يجب على تركيا أن تكون أوّل المدافعين عن ضم كركوك إلى كردستان. لأن أنقرة ستكون المستفيد الوحيد من ذلك. كان على تركيا أن تكون مع الاستفتاء، ومع وجود دولة كردية حليفة على حدودها. لأن هكذا دولة ستكون في خدمة المصالح التركيّة في المنطقة. لقد ارتكبت تركيا خطأً تاريخيّاً فادحاً، وربما أضاعت كركوك والموصل إلى الأبد. لقد أتت الفرصة لتركيا على طبق من ذهب، بعد مضي قرن. ولكن الأتراك أضاعوا هذه الفرصة، جرياً وراء النوازع القوميّة. ولا أعرف كيف يمكنكم تلافي الأمر؟! حتى لو تحوّلت كردستان العراق إلى دولة مستقلّة، من يدري، ربما يأتي استفتاء في هذه الدولة يطالب بالانضمام إلى تركيا؟! التفكير التركي فيما يتعلق بكردستان العراق، منفعي - آني، وليس إستراتيجي على المدى البعيد.

حاول الضيف التركي تبرير موقف تركيا، والهمس في أذني. قاطعته، وقلت له: أتمنّى منك أن تتعامل مع الأمر بمنطق الباحث الأكاديمي الذي يمتلك منظورا بعيد المدى لمصالح بلاده، وليس الباحث الذي يبرر أخطاء حكومته. لا تفهم من كلامي أنني أزايد عليك في محبّة تركيا. ولكن أمثالك يفترض عليهم إجراء مراجعات نقديّة لأداء حكوماتهم، بما يخدم مصالح تركيا وكل شعوبها. بالفعل أنتم بحاجة إلى تورغوت أوزال جديد. توروغوت أوزال كان إسحاق رابين تركيا، وإسحاق رابين كان تورغوت أوزال إسرائيل، وكلاهما كانا هدفين من قبل أعداء السلام والاستقرار، في تركيا وإسرائيل.