كرة الثلج العنصرية

2019.09.24 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

على مدى يومين متتاليين، تناقلت الأخبار خبرين يحملان فاجعتين عن أحوال اللجوء السوري في لبنان. الأول، تحدث عن إعادة نبش قبر لإخراج جثمان طفل سوري دفنه أهله في مقبرة إحدى القرى حيث اعتبر المسؤول عن المكان بأن هذا لا يجوز إلا لمواطن، وبالتالي فهو أعاد الجثة إلى أهلها المكلومين. والخطب الثاني، هو قيام تلفزيون التيار "الوطني الحر" اللبناني بعرض رسم "كاريكاتوري" بدائي الصنعة إضافة إلى حمولته العنصرية. يظهر في الرسم أولادٌ لبنانيون يقفون بحزن أمام باب مدرستهم التي تعلن لهم بأنها لم تعد قادرة على استقبالهم لامتلائها بالسوريين والفلسطينيين والأحباش والبنغال وهنود وزنوج (...).

قصص التمييز العنصري صارت يومية في لبنان تجاه السوريين اللاجئين وأقرانهم الفلسطينيين، وقد تلاحمت تغريبتا الشعبين لتشكلا دريئة لقصف لفظي وقانوني وممارساتي لعدة جماعات حكومية وشبه حكومية لبنانية. وصار الخطاب العنصري متاحاً بسهولة لا مثيل لها حتى في أعتى عنصريات القرن السابق.

يمكن مقاضاة هذا التطرف بكل سهولة في دولة قانون كفرنسا مثلاً، ويمكن أن يكون النص القانوني هو الفيصل في إيجاد حلول موضوعية وعقلانية لمثل هذه الممارسات. لكن القانون ودولته لا يكفيان حتى لو كانا فاعلين. فالمجتمع "المضيف" يحتاج إلى إطلاق عملية توعية إنسانية وتحسيس أخلاقي وتوضيح علمي للأكاذيب التي ما فتئت تطلقها وسائل إعلامية أو أحزاب سياسية أو جهات دينية للتحريض على الآخر، وحيث ساهمت نخب "مثقفة" وأخرى "متعلمة" في ترويج الأقاصيص حول الأمراض والتلوث مثلا وربطها بوجود الآخر في الجوار.

كما من المهم أن يقف الجميع، وهم ممن ينفي عن نفسه تهمة العنصرية، أمام مرآة التعري والتي يجب السعي إلى برمجتها لتُظهر كل مسارب العنصرية البدائية والساذجة والقائمة على الجهل. أما عنصرية القادة والمسؤولين، فلها حساباتها السياسية البعيدة كل البعد عن أي موقف عرقي. وإن وجد، فزيادة "الخير" خيرٌ كما يمكن أن يرد على لسان حال الملطخين بهذه الأخلاقيات المنحرفة.

في هذا الحقل، من المفيد الاستعانة بخبراء ديموغرافيين واقتصاديين جادين، لإنتاج المعرفة المساعدة على دحض كل الأوهام وتنفيس الاحتقان ووضع الأمور في مسارها الصحيح. وبالتأكيد، فهؤلاء نادرون خصوصاً أن موضوعيتهم تتطلب منهم التخلي عن أي موقف الأيديولوجي أو الانتماء الطائفي. ولكن وجود عدد قليل منهم يكفي لإنتاج مادة موثقة حول ما يجهله الكثيرون ويتجاهله البعض ويتناقله الجميع من معلومات تتعلق بالهجرة وآثارها وسلبياتها وايجابياتها.

من المسيء لموضوعية الطرح وفاعلية إيجاد الحلول أن يتم نفي كل السلبيات والإشارة والإشادة فقط بالإيجابيات التي تترتب على عملية اللجوء والهجرة في البلد المضيف

كما أنه من المسيء لموضوعية الطرح وفاعلية إيجاد الحلول أن يتم نفي كل السلبيات والإشارة والإشادة فقط بالإيجابيات التي تترتب على عملية اللجوء والهجرة في البلد المضيف. وبالتالي، يجب أن يعكف المختصون على طرح الأرقام الأكثر قرباً من الواقع، لانعدام إمكانية الحصول على أرقام دقيقة غالباً، والتي تشير إلى استهلاك المهاجرين ومساهمتهم في دفع عجلة الاقتصاد في بعض جوانبها كما يشيرون إلى تأثير أعدادهم الكبيرة على البنى التحتية، من مدارس وطاقة وخدمات، على سبيل المثال، في بلد لم يعرف أي انجاز تنموي حقيقي منذ انتهاء حربه المحلية.

والإشارة إلى وجوب تحمل عبئ اللجوء من قبل المجتمع الدولي وخصوصاً دوله الغنية، مشروعة. لكنها لا يجب أن تصير لازمة يتم ترديدها في كل المناسبات وكأننا أمام حل وحيد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. كما لا يمكن أن ينسى من يهتم علمياً في الموضوع بأن يتوقف مليّاً عند المسألة الطبقية الهامة والتي تتقدم المسألة الدينية والطائفية بمراحل. فلا يشكو الرسمي أو الشعبي في لبنان من ميسوري الحال من السوريين، بل من فقرائهم. وفي هذا التصنيف الطبقي يبدو جليّاً بأن المسألة العنصرية، خصوصاً لدى "النخب" الاقتصادية والاجتماعية، هي مسألة نسبية يمكن للعامل الاقتصادي أن يكون محورها الأساسي.

وأخيراً، يعكف السوريون، ضحايا التمييز والعنصرية، على الاستمرار في الابتعاد عن ضخ جهودهم في العمل الجمعياتي المدني والذي يمكن له، إن تطور، أن يُساعد على إطلاق مبادرات مدنية بمساندة من أطراف مدنية محلية عديدة ما فتئت تندد بالعنصرية على مختلف درجاتها.

في دول اللجوء، التنظّم والتنظيم، بعيداً عن البعدين السياسي والديني، أمران مطلوبان بشكل مُلحّ، ليُصار إلى تمثيل، ولو بشكل جزئي، مطالب وأوجاع الجموع الضحية المسكوت عن مأساتها. كما لهذ العمل المدني دور أساسي آخر وهو العمل في أوساط مجتمع اللجوء لرفع مستوى الوعي بالحقوق كما بالواجبات، ومحاولة المساعدة في الاندماج الاجتماعي والثقافي والاقتصادي.

المبادرة المدنية هي عمل مشترك سوري ـ لبناني يمكن له أن يتحقق حتى في هذا الزمن الصعب والذي تستغل كل الأطراف مسألة اللجوء وتدّخرها في جعبتها السياسية لتخرجها وقت الحاجة وذلك لاستخدامها في أسوأ أشكالها. ولا يجب التوقف عند العقبات السياسية والأمنية، رغم جديتها، ويجب محاولة إنجاز مشروع عقلاني لإدارة الأزمة المتفاقمة، والتي لا توجد مؤشرات جيوسياسية على قرب حلّها، بما يأخذ بعين الاعتبار الحقوق والواجبات إضافة إلى الاعتراف بالمخاوف المشروعة للطرف المضيف وعدم توسيع رقعه الاتهامات سهلة التداول لدى الأطراف كافة.