كتاب اختلال العالم.. وتفسير نظرة العرب السوداء لما حولهم

2020.02.08 | 23:03 دمشق

1111.jpg
+A
حجم الخط
-A

كان أمين معلوف متفائلاً أثناء تأليفه لهذه الكتاب عام ألفين وتسعة بوصول ذي الأصول الإفريقية باراك أوباما إلى سدة البيت الأبيض، لكنه لو ألف جزءاً ثانياً تناول فيه ما أنجزه هذا الرئيس على صعيد السلم والأمن الدوليين لغير رأيه، ربما، فما بالك مع وصول اليميني دونالد ترمب إلى الرئاسة الأمريكية، وفوز اليمين في أكثر من مكان حول العالم، وارتفاع وتيرة الصراعات، فضلاً عن الانتكاسة التي منيت بها ثورات الربيع العربي.

امتداد لكتب سابقة

"اختلال العالم وحضاراتنا المتهافته" هو عنوان الكتاب الذي يأتي بشكل أو بآخر كتتمة لكتاب الهويات القاتلة رواية التائهون، اللتين حاول فيهما معلوف المؤرخ القلق على مستقبل الوطن العربي، بل والعالم، والمدرك تماماً لخطر صراع الإيديولوجيا والهويات، حاول أن يضيء على هذا الموضوع، وكذلك يفعل في هذا الكتاب، الذي جاء كدراسة إنتروبولوجية تاريخية، لواقع العالم وما يعيشه من أزمات مالية وبيئية وصراعات عرقية في بداية الألفية الجديدة وبعد هجمات الحادي عشر من أيلول والغزو الأمريكي للعراق، مع التركيز على العالم العربي وأحواله، وهذا ما يعنيني في هذا الكتاب، وهذا ما سأحاول الإضاءة عليه.

أتاتورك الملهم

بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى وانفصال العرب عنها، برزت شخصية مصطفى كمال القائد العسكري الذي قاتل الحلفاء وحرر أغلب الأراضي التركية الواقعة ضمن تركيا الحالية، لمع اسم مصطفى كمال، حتى لقبه الترك بـ أتاتورك والتي تعني أبا الترك، وهو من ألغى فيما بعد الخلافة العثمانية، وأسس للجمهورية التركية.

تلا ذلك احتلال فلسطين عام ثمانية وأربعين، حيث مني أكثر من جيش عربي بالهزيمة على يد الجيش الإسرائيلي الوليد، وهو ما أحدث صدمة، لدى الشعوب العربية، المنتشية حديثاً بالاستقلال، والمشبعة بالأفكار القومية الوحدوية حينها.

طبعاً شخصية أتاتورك كانت ملهمة في أكثر من مكان في العالم الإسلامي، سيما في مصر التي قام فيها انقلاب، أطاح بالنظام الملكي على يد عدة ضباط، أبرزهم محمد نجيب وجمال عبد الناصر، وعبد الحكيم عامر. يرى معلوف أن عبد الناصر الذي أبعد رفيقه محمد نجيب متأثراً بالتجربة الأتاتوركية، لذلك ابتعد عن الإخوان الذين تأثر فيهم في بداية حياته، وابتعد عن الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية.

ارتفاع أسهم عبد الناصر

في ظل غليان المشاعر القومية، استقبل مجيئ عبد الناصر بترحيب عظيم بعد طول انتظار، وبعد أقل من سنتين على الثورة قام عبد الناصر بتأميم قناة السويس فتعرض على إثر هذا القرار لحرب ثلاثية من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، ولكن ضغطاً دولياً من أميركا والاتحاد السوفييتي أجبر فرنسا وبريطانيا على الانسحاب، الذي اعتُبر نصراً كبيراً لعبد الناصر، وارتفعت أسهمه لدى العرب جميعاً، معولين عليه بتحقيق الوحدة، والثأر للهزيمة التي حاقت بهم على يد إسرائيل عام ثمانية وأربعين، وهو لم يخيب ظن هذه الجماهير، خطابياً على الأقل، فكان يدغدغ مشاعرها بخطاباته الرنانة المتحدية للغرب وإسرائيل، والمتوعدة والمهددة، وكان حسبما يرى معلوف "شديد التحسس بحرارة سامعيه، وخصوصاً فيما يتعلق بالملف العربي- الإسرائيلي، حيث كان في الغالب أسير خطابه الرنان".

نكسة 67 وأثرها

وما إن أعلن عبد الناصر إغلاق مضيق تيران في وجه الملاحة الإسرائيلية في شهر أيار من عام 67، حتى انطلقت الجماهير العربية مؤيدة له في كل المدن العربية، "جماهير كانت تجد ذاتها عفوياً في عبد الناصر، وتطالب بقراراته السياسية، كما لو أنها هي أملتها () قائلة بالأمس أغلقنا المضيق واليوم أممنا القناة".

عبد الناصر كان تلقى تقارير مضللة من المشير عبد الحكيم عامر عن أن الجيش الإسرائيلي لا يمكن أن يدمر أكثر من عشرة بالمئة من الطيران المصري، كردة فعل على إغلاق المضيق، ولكنه دمر كل الطيارات وخرب المطارات، إضافة

إن حرب 67 كان يجب أن تمحو آثار هزيمة 48، إلا أن الهزيمة سلبتهم احترام ذاتهم وجعلت الارتياب أساس تعاملهم مع العالم

إلى احتلال إسرائيل لسيناء وقطاع غزة والقدس والضفة الغربية والجولان خلال ستة أيام، "لا نبالغ إذا قلنا إن هذه الحرب القصيرة كانت ولا تزال حتى اليوم بالنسبة للعرب الفاجعة الأساسية التي تؤثر في رؤيتهم للعالم وفي سلوكياتهم".

هزيمة تلو هزيمة

يقول معلوف إن حرب 67 كان يجب أن تمحو آثار هزيمة 48، إلا أن الهزيمة سلبتهم احترام ذاتهم وجعلت الارتياب أساس تعاملهم مع العالم، الذي يقوده أعداؤهم، ولا مكان لهم فيه، "إن هذا الحقد على العالم وعلى الذات يفسر بقدر واسع السلوكيات التدميرية والانتحارية التي تطبع بداية القرن الواحد والعشرين".

 

عبد الناصر الصادق في مشاعره، كان إعلامه يكذب في كل شيء، وهو من أجهز على تجربة ديمقراطية ناشئة في بلد منفتح على العالم، وأقام دولة بوليسية مغلقة، تعد على المواطن أنفاسه، ورغم هذا كله.. آمن العرب وقبلهم المصريون بعبد الناصر" ساروا وراءه وأحبوه، ثم صدمهم فشله حتى الأعماق، وجعلهم يفقدون كل ثقة بقادتهم كما بمستقبلهم إلى أمد بعيد".

ملهم للديكتاتوريين

عبد الناصر كان ملهماً لمن جاء بعده من القادة العرب، زعماء الأنظمة القمعية كالقذافي وصدام حسين، -معلوف لم يتكلم عن حافظ الأسد من قريب ولا من بعيد- لكن أحداً منهم لم يستطع أن يستحوذ على المكانة التي احتلها عبد الناصر. تتوزع المسؤولية عن إخفاقه بين الحروب التي شنتها الدول الغربية وإسرائيل، والممالك النفطية، والإخوان المسلمون، والأوساط الليبرالية، والشيوعيون، "إلا أنه ما من أحد من أولئك الأعداء أسهم في إفلاس الناصرية بمقدار إسهام عبد الناصر بالذات() ولو أن ثقافته السياسية ومزاجه دفعا به في هذا الاتجاه، لكان دفع بمصر وبمجمل المنطقة في طريق المزيد من الديمقراطية، والمزيد من احترام الحريات الفردية، وبلا ريب في طريق السلام والتطور".

خسارة كل شيء

يرى معلوف أن اليأس ليس نتيجة حرب 48، ولا نكسة 67، ولا الحرب العالمية الأولى، "إنه تاريخ شعب عرف عهداً كبيراً من المجد، أعقبه سقوط طويل، فهو منذ نحو مئتي سنة يتوق إلى النهوض، ولكنه يعود في كل مرة إلى السقوط، وتعاقبت عليه الهزائم والإهانات والخذلانات إلى أن جاء عبد الناصر، الذي بهزيمته شعر العرب ومعهم جزء كبير من الأمة الإسلامية بأنهم خسروا نهائياً كل شيء". 

عبد الناصر ونابليون

رغم أن السادات نجح حيث فشل عبد الناصر، فاستطاع زحزحة الجيش الإسرائيلي وإرباك صفوفه في حرب تشرين من عام 73، لكنه لم يتمكن من الحلول محل سلفه في قلوب العرب، وبعد توقيعه اتفاقية الصلح مع إسرائيل أصبح أيقونة عند الغرب لا عند العرب، فتعرض للعزلة، والاغتيال المعنوي، قبل أن يتم اغتياله فعلياً.

وهنا يضرب معلوف مقارنة بين نابليون بونابرت وعبد الناصر، حيث انتهت

نشطت الحركات اليسارية التحررية، كالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي قادها جورج حبش، وحظيت العديد من المنظمات اللينينية الماركسية ببعض من تأييد شعبي

حياة الاثنين بالهزيمة، ولكن جميع من تسلموا الأمور من بعدهما لم يستطيعوا أن يغطوا مكانهما، في مخيلة الجماهير على الأقل، "إن الشعوب تعترف بجميل من يهديها الحلم والملحمة، وإعجاب الآخرين، وشيئاً من الاحترام".

انتعاش الحركات اليسارية

غداة هزيمة 67 قال مسؤول مصري غاظه ما حصل للسفير السوفييتي في القاهرة، كل الأسلحة التي بعتمونا إياها لا قيمة لها، فأجاب السفير: لقد أعطينا السلاح نفسه للفيتناميين، من هنا وبتأثير من هزيمة الأمريكان في فييتنام، نشطت الحركات اليسارية التحررية، كالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي قادها جورج حبش، وحظيت العديد من المنظمات اللينينية الماركسية ببعض من تأييد شعبي، ولكنه لم يطل كثيراً، حيث بدأت الحركات الإسلامية بالانتعاش مع قيام ثورة الخميني في إيران.

في عهد عبد الناصر كانت جماعة الإخوان المسلمين مجبرة على البقاء في الظل، ليس فقط بسبب القمع الوحشي الذي تعرضت له حينها، بل أيضاً لأن شعبية عبد الناصر الجارفة كانت تجعل خصومه كعملاء "للإمبريالية والاستعمار".

فوز الإسلام السياسي

وكنتيجة لهذا الجو المشحون، كان هناك نوعان من الحكام في الوطن العربي، الأول يستمد شرعيته من المعاداة الشكلية للغرب القائمة على الكثير من الشعارات الفارغة، والثاني هي الأنظمة التي أطلق عليها محور الاعتدال، ويرى معلوف أن الاثنين لا يتمتعان بالشرعية، من الطبيعي والحال هذه أن تفوز الحركات الإسلامية، كالجماعة الإسلامية في الجزائر وحماس في فلسطين.

أمريكا هي الفائز والخاسر

يرى معلوف أن إحدى العبر التي يمكن استخلاصها من هجمات 11 من أيلول عام 2001 هي أن الاختلال في أنظمة الحكم لن يبقى محلياً بل سيتطاير شرره في طول الكرة الأرضية وعرضها. معلوف يرى أن الولايات المتحدة هي المستفيد من اختلال الإدارة السياسية في العالم، لكنها ضحيته في ذات الوقت، "وما لم تتوصل لضبط نفسها، فإن علاقاتها غير السليمة مع بقية دول العالم قد تتسبب بصدمات أبقى أثراً وأكثر ضخامة من تلك التي أعقبت حرب فييتنام".