كان السوري بلا عنوان و"كنا عايشين"

2018.09.05 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

مع بداية موسم المدارس، أثار فضولي القانون رقم 7 لعام 2012 الذي تم بموجبه تعديل قانون التعليم الإلزامي في سوريا وإجراءاته التنفيذية.

في الواقع، ليس القانون بحد ذاته ما "دوخني"، فهو في المحصلة، كما الكثير من القوانين والتشريعات في سوريا، يحمل مدلولاً إيجابيًا في الظاهر، مع أن الأمية في عصرنا الحالي لم تعد تعني عدم معرفة القراءة والكتابة، بل تخطت ذلك بكثير في عصر المعلوماتية ودخول الشبكة والأجهزة الذكية كل ميادين الحياة، إنما عند تطبيق القرارات والقوانين كانت تبدو قاصرة أو مشلولة أو عاجزة عن أداء مهمتها والوصول إلى غايتها وكأنها وضعت كي تكون هكذا، لكن ما دوخني هو التفصيلات والتعليمات الصادرة بشأن تنفيذ القانون، بعدد اللجان المنبثقة والآلية الناظمة للتطبيق وصلاحيات اللجان التي تعتمد بشكل أساسي على الربط والتغذية الراجعة، المعدومة في سوريا، أو في أحسن حالاتها يبتلعها الروتين والإهمال والتسيب وبطء المعاملات والمركزية وانعدام المسؤولية أو غياب المحاسبة، وفي النهاية تُركن في الأدراج او يأكلها الغبار على الرفوف.

يقول القرار، بعد تعداد الإجراءات التنفيذية في توجيه الإنذار إلى الأولياء أو أرباب العمل الذين يستخدمون أطفالاً في عمر التعليم الإلزامي "يتم تنفيذ الخطة بالتعاون بين الوزارة /التربية/ ووزارات الداخلية والإعلام والإدارة المحلية والمالية والعدل والأوقاف والشؤون الاجتماعية والعمل والثقافة والمنظمات الشعبية والنقابات المهنية، وتحدد الآليات التي تحقق المساهمة الفاعلة والميدانية لتطبيق إلزامية التعليم ومنع تسرب الأطفال الملزمين".

كل هذه الإجراءات والخطط "الهادفة" وتفصيلاتها المدوخة، وتسع وزارات معنية عدا المنظمات الشعبية والنقابات المهنية، ترتبط بداية بالوصول إلى الأطفال المتسربين أو إلى أوليائهم، فإذا غضضنا النظر عن الوضع المعيشي المأساوي لمعظم الأسر السورية بسبب الغلاء الفاحش وعدم القدرة على تأمين مقومات المعيشة بأدنى احتياجاتها واضطرارها إلى إرسال الأبناء باكرًا إلى سوق العمل وكل العوامل المتعلقة بتسرب الأطفال من مدارسهم، والذي ليس موضوع المقالة بحد ذاته، يبقى هناك موضوع "العنوان".

كان من يريد الاستدلال إلى أي مكان يعتمد على القرائن

لم يكن في سوريا سابقًا، قبل الأزمة، للعنوان أية أهمية بالرغم من أهميته الفائقة، كان من يريد الاستدلال إلى أي مكان يعتمد على القرائن، فقد جرت العادة هكذا طالما ليس هناك تنظيم للشوارع والساحات والجادات والأزقة والأبنية وغيرها، إذا أراد الفرد الدلالة إلى عنوانه أو عنوان ما، فلا بد من الوصف، الشارع الفلاني أول انعطاف إلى اليمين، في منتصف الشارع بياع فول ومسبحة أو فلافل أو محل سمانة أو.. أو.. بعده بعدة أمتار دخول في زقاق، في آخره البناء الفلاني المدخل إلى اليمين الطابق كذا، وإذا زادت التعقيدات أكثر فلا بد من السؤال.

في الدول المتحضرة للعنوان أهمية فائقة، بل عدم وضوحه يحمّل صاحبه مسؤولية أمام الجهات المعنية، لا بد لكل فرد من أن يكون لديه عنوان يتضمن المدينة والحي والشارع ورقم البناء والمسكن وصندوق البريد. لا حاجة للسؤال، بإمكان الفرد الوصول بدون دليل أو مرافق أو بدون الحاجة إلى السؤال، وأما راكب السيارة فهناك برنامج المسح الجغرافي، الممنوع في سوريا لأسباب كثيرة، أولها أمنية وآخرها عدم توفر البنية التحتية له.

العنوان من أهم ضروريات الحياة في مجتمع يعقد أفراده عقدًا بينه وبين الدولة، وصندوق البريد في مدخل البناء يجب أن يتوافر لكل الساكنين، وفتح صندوق البريد كل يوم يعتبر من النشاطات التي لا يمكن التساهل بها أو تأجيلها، فالمراسلات مازالت قائمة وأساسية بين الجهات الرسمية والأفراد، وبالنسبة للأفراد فيما بينهم، عصر التقنيات والأنترنت والأجهزة الذكية لم ينسق المراسلات البريدية التقليدية بالرغم من تحضر تلك الدول ودخول الأنترنت والأتمتة من الباب الواسع للحياة بكل تفاصيلها هناك، وبالرغم من أن نسبة الأمية تكاد تكون معدومة، حتى لدى الكبار في العمر، فقد أصبح من هم في عمر لم يسعفهم لمواكبة التطورات السريعة، قليلين جدًا.

العنوان دليل تقدم وحضارة، ودليل رقي العقد المبرم بين الفرد والدولة

العنوان دليل تقدم وحضارة، ودليل رقي العقد المبرم بين الفرد والدولة، هذا الأمر، بالرغم من أنه يبدو قليل الأهمية بالنسبة لمعظم أفراد شعبنا، إلاّ أنه كان من التفاصيل التي نفتقدها في حياتنا اليومية، التي بغيابها أو إهمالها وعدم تنشيطها وتوفير البنية التحتية اللازمة لها، كانت مع غيرها من الفعاليات الغائبة تفعل فعلها في حياتنا، هذه التفاصيل الغائبة التي كان الناس يبتكرون لها حلولاً بديلة بحسب المتاح والمتوفر، مثلما كانت في مرات لا تعد سببًا في ضياع الحقوق أو سلبها أو إيقاع الأذى بأصحابها، فعندما كانت الجهات الحكومية تريد إيصال إنذار ما إلى المواطن، كانت تلجأ إلى طرق غير مسؤولة، كالتبليغ باللصق على الأبواب، بحضور المختار ليتخذ التبليغ صفة قانونية، المختار الذي يعرف الشاردة والواردة عن الساكنين، بطريقة أمنية استخباراتية ليس أكثر، مع الدراية بأن الإنذار قد ينزع من مكانه من قبل أي فرد يمر أمامه، وقد يُبلّغ الإنذار لأي شخص من الجوار، وقد يوقع أي شخص على استلامه، فالمراسل الموكل إليه مهمة التبليغ لا يهمه إن وصل إلى صاحبه أم لا، كل ما يهتم به إفراغ حقيبته والرجوع إلى بيته في النهاية خالي الوفاض، فتضيع الحقوق بمنتهى البساطة واللامسؤولية والاستهتار بقيمة الفرد.

ساهمت هذه الحلول البديلة، والعنوان مثال عنها، في قتل الحافز لدى الأفراد، وازدياد الشعور بالضعف والعجز، وراكمت بطريقة مخاتلة أسباب الغضب التي وصلت مع الزمن إلى درجة الانفجار. ليست تفاصيل بسيطة، إنها التفاصيل البديهية التي تصنع الحياة، لكنها كانت بعيدة عن متناول أيدينا، فقد كان الشعب السوري يعاني في أدق تفاصيل حياته، التفاصيل التي تعتبر بديهيات غير قابلة للنقاش، ومن المفترض أنها لا تكلف عناء امتلاكها، في دول تحترم مواطنيها، ومع هذا يصفون الحالة السورية الراهنة بالأزمة، فما اسم الحالة التي امتدت لعقود قبلها؟ إنها الأزمة الحقيقية التي أدت إلى هذه الحرب المدمرة التي انهار معها المجتمع السوري. 

لكن ما يثير الدهشة، ربما بالنسبة لغير السوريين، أن كل تلك الفوضى وذلك الترهل في الأداء وعدم احترام الحقوق أو الكرامات، وصعوبة الوصول إلى العناوين، كان يمكن للجهات الأمنية أن تصل إلى أي مواطن بالسرعة القصوى عندما تريد، ويمكنها أن تسحبه من أعمق الدهاليز تحت الأرض بدقة وسرعة قياسيين، أما بالنسبة للسوريين فقد كانوا يعرفون تلك المعلومة أكثر من أسمائهم، وكانت أول ما يتعلمونه عندما تبدأ رموز وعيهم بالتشكل، حتى تصبح مع الزمن مزروعة في اللاوعي الجمعي، مقترنة بالخوف والإحساس بالتهديد الوجودي، هي بالنسبة لهم الإحساس العارم المهين بالانكشاف والعراء. حتى لو تاهوا في سراديب مدنهم وحياتهم، فإن الحقيقة المدركة الساطعة أن "الحكومة" بإمكانها الوصول إليهم حتى لو كانوا في "أبراج مشيّدة". ومع هذا، بعد الدمار الذي لحق بسوريا وما كشفت الحرب من تهتك نسيجنا، ما زال هناك من يقول: "كنا عايشين".