إذا أردت البحث عن المعنى الحقيقي للخذلان العالمي في مكان ما في هذا العالم، فإنه يتجسّد في أسوأ صوره في سوريا.
على مدى أعوام الصراع الـ12 الماضية، بدا العالم عاجزاً عن وقف آلة القتل والتدمير التي أطلقها النظام ضد المناطق التي خرجت عن سيطرته بعد اندلاع الحرب. وأضحت المأساة الإنسانية السورية أقل من ثانوية في الأولويات العالمية مع مرور الوقت. مع أن الكثير من دول العالم باستثناء بعض الدول العربية، التي أعادت علاقاتها مع نظام الأسد، ما تزال تتبنى موقفاً سياسياً مناهضاً للنظام، إلآّ أن معظم دول العالم باتت تُقارب المسألة السورية من منظور أن النظام انتصر في الحرب وأنه لم يعد بالإمكان تجاهل الواقع الجديد الذي فرضه.
حتى إن الدول الغربية، التي تفرض عقوبات على النظام، أصبح سقف طموحاتها تحقيق تسوية سياسية للصراع بدلاً من جعل النظام يدفع ثمن جرائم الحرب التي ارتكبها بحق السوريين. لقد جاءت الكارثة التي أحدثها الزلزال المدمر في سوريا وتركيا في السادس من شباط الجاري لتُشكل جرس إنذار للعالم بأن تجاهل المأساة السورية لا يُحول سوريا فحسب إلى دولة فاشلة مُهددة للاستقرار الإقليمي والعالمي، بل يعمل أيضاً على تسمين مأساة إنسانية في هذا البلد على نحو خطير.
مؤخراً، أقر منسق الإغاثة في الأمم المتحدة مارتن غريفيث بأن المنظمة الدولية خذلت السوريين في شمال غربي البلاد بعد كارثة الزلزال وبأنهم محقون في شعورهم بتخلي العالم عنهم. لكنّ ما لم يقله غريفيث هو أن معضلة إيصال المساعدات إلى المناطق المنكوبة من جراء الزلزال لا تقتصر فقط على وجود معبر وحيد مفتوح بين تركيا وسوريا لإدخال المساعدات من خلاله، بل تتعلق بجانب أخطر من جوانب الإهمال العالمي للمأساة السورية وهو تحوّل ملف المساعدات الإنسانية إلى ورقة للمساومة بين روسيا والغرب في مجلس الأمن الدولي من أجل الضغط على العالم للانفتاح على النظام السوري والقبول به كأمر واقع.
مع أن الرضوخ الدولي لروسيا في السابق أدى إلى اقتصار معابر المساعدات على معبر واحد فقط، فإن مواصلة الاستسلام لتسييس ملف المساعدات الإنسانية يجعل العالم عاجزاً عن إبداء استجابة ضرورية لإغاثة المناطق المنكوبة في شمال غربي البلاد. يعيش الآن ما يقرب من أربعة ملايين سوري في هذه المنطقة بين مقيم ونازح قسراً وهي تُعاني أصلاً من وضع اقتصادي صعب وبنية تحتية مُدمّرة بفعل الحرب، والخذلان العالمي لها بعد كارثة الزلزال سيُحوّلها إلى أسوأ بؤرة في العالم من حيث خطورة الأوضاع الإنسانية والاقتصادية.
بمقدار كون الاستجابة العالمية لكارثة الزلزال ينبغي أن تولي أهمية قصوى للاعتبارات الإنسانية على أي اعتبارات سياسية، فإن السماح للأسد بالاستفادة من الكارثة من أجل كسر عزلته الدولية يُقوض على المدى البعيد أي فرصة لإحداث سلام حقيقي في سوريا. أبلت القوى الغربية بلاءً حسناً في عدم إظهار استعدادها للموافقة على شروط النظام بإرسال المساعدات إلى المناطق المتضررة من الزلزال بالتنسيق معه، لكنّ التأخير في وضع خطّة بديلة لتجنب الابتزاز الذي يمارسه النظام، يفاقم من الوضع الإنساني الخطير في شمال غربي البلاد.
أزعم أن كثيراً من السوريين المنكوبين في المناطق الخاضعة للمعارضة يُفضّلون البقاء من دون مساعدات دولية على الحصول عليها من خلال النظام وإعادة تعويمه دولياً
أزعم أن كثيراً من السوريين المنكوبين في المناطق الخاضعة للمعارضة يُفضّلون البقاء من دون مساعدات دولية على الحصول عليها من خلال النظام وإعادة تعويمه دولياً. لقد كان للزلزال وقع مدمر على ما تبقى من مقومات للحياة في هذه المنطقة، لكنّه ينبغي على العالم أن يتذكّر أيضاً بأن المأساة الإنسانية في المنطقة كانت قائمة بالفعل قبل كارثة الزلزال وبأن النظام السوري هو المسؤول أولاً وأخيراً عن هذا الوضع. بعد ما يزيد من أسبوع على الزلزال فشل المجتمع الدولي بشكل ذريع في الانخراط بجهود الإغاثة المحلية المتواضعة ما حرم الكثير من السوريين تحت الأنقاض فرصة البقاء على قيد الحياة، لكنّ عدم المشاركة العاجلة في جهود التعاقي من تداعيات الزلزال سيكون له وقع أسوأ على حياة ملايين السوريين.
ما يزيد من خطورة الوضع الإنساني في شمالي سوريا أن الدمار الهائل الذي تسبب به الزلزال أيضاً في ولايات الجنوب التركي يُضعف من قدرة تركيا على مواصلة التزامها بإعادة إنعاش المناطق التي تُديرها في الشمال السوري من تبعات الحرب. وحقيقة أن كثيراً من اللاجئين السوريين في تركيا والذين يُشكلون مصدراً مالياً رئيسياً لمساعدة أسرهم وأقربائهم في الداخل السوري، تجعل الوضع أسوأ على السوريين في شمال غربي البلاد.
إن اكتفاء العالم بالتفرج على مزيد من الانهيار الاقتصادي والمجتمعي في مناطق المعارضة السورية سيكون له وقع كارثي على ملايين السوريين الذين يعيشون فيها. بقدر الحاجة إلى انخراط دولي في إعادة إعمار المناطق المنكوبة في سوريا من جراء الزلزال، فإن الكارثة الجديدة ينبغي أن تُذكر العالم أيضاً بأن سوريا بحاجة قبل كل شيء إلى سلام يُنهي هذه الحرب. من المهم أن لا يقتصر النقاش العالمي في الوقت الراهن على سبل إدخال المساعدات إلى شمالي سوريا، بل أن يشمل الحاجة إلى إعادة الاهتمام العالمي بالقضية السورية. في حين أن العالم يستسلم بشكل متزايد للواقع الجديد الذي فرضه النظام بعد 12 عاماً من الحرب، فإن كارثة الزلزال تُشكل جرس إنذار للعالم بأن تجاهل الأبعاد العميقة للمأساة السورية لن يؤدي سوى إلى تبديد أي فرصة لإحلال سلام حقيقي ومستدام في سوريا في المستقبل.