قوانين الاستبداد لحماية الإجرام والفساد

2022.05.02 | 06:05 دمشق

10ipj-22-730x438-1.jpg
+A
حجم الخط
-A

شهدت الفترة القريبة الماضية إسهالاً واستسهالاً في إصدار منظومة الاستبداد الأسدية قوانين تحصّن الحاكم، وتكبِّل المحكوم. في التحصين أصدرت قانوناً يجرّم التعذيب، لتقول للعالم بأنها لا تمارسه؛ ولكنها فعلياً قامت وعاشت عليه؛ والدلائل أكثر من أن تحصى. وفي التكبيل أصدرت قانوناً حول الجرائم الإلكترونية يكم أفواه كل مَن ينتقد فسادها، أو إفقارها للسوريين وإذلالهم واعتقالهم وتشريدهم وتدمير حياتهم. في هذه القوانين تسعى منظومة الاستبداد للتأسيس لحصانة كاملة لكل مسؤول فيها من مستوى رئيس الدولة حتى أصغر عنصر في جيشها ومخابراتها وشبيحتها.

قلت في مقال سابق إن هدف منظومة الاستبداد من قوانينها الوقحة هو إخراس مَن تسوّل له نفسه في الداخل السوري أن يستذكر أو يرفع أي شكوى بأنه أو ذويه أو من يعرف قد تعرَّض للتعذيب. وهي تهديد صريح للشبيحة وللأفرع الأمنية بأن النظام هو حاميهم، وأي كلمة منهم سوف تفتح ملفاتهم. وهي الأداة الأنسب للتخلص من بعض مَن قاموا بعمليات التعذيب، وتحميلهم أوساخ ما اقترفت أيدي المنظومة ككل. وإن الهدف الأهم من هذا الهراء هو إغلاق أي فرصة لمحاكم خارجية ذات ولاية دولية أن يلجأ أو يحتكم إليها السوريون حول العالم؛ فهم سيجدون الآن بأنهم إذا فكروا باللجوء لتلك المحاكم، ستقول لهم بأن التعذيب قد بات مُجَرّْماً بالقانون السوري، وعليهم الرجوع إليه لتقديم شكواهم.

الجديد والغريب في الأمر أن مَن يحدد ويعرّف مفاهيم "هيبة الدولة" و"الوحدة الوطنية" و"إثارة الرأي العام" هو السلطة الحاكمة المستبدة ذاتها؛ وكل مَن يخالف تعاريفها، تجرّمه

يرى خبير قانوني أن "جرائم أمن الدولة، بصدور القانون الأخير، أضحت موزعة بين قانون العقوبات العام، وقانون الإرهاب رقم 19 لعام 2012، والقانون 15 لعام 2022، والقانون 20 لعام 2022؛ وأصبحت عقوباتها جنائية الوصف". والجديد والغريب في الأمر أن مَن يحدد ويعرّف مفاهيم "هيبة الدولة" و"الوحدة الوطنية" و"إثارة الرأي العام" هو السلطة الحاكمة المستبدة ذاتها؛ وكل مَن يخالف تعاريفها، تجرّمه. ولا بد أن نتذكّر أن كل تلك المصطلحات لم يُلْتَفَت إليها خلال ثورة السوريين عام ٢٠١١؛ وخاصة بعد أن داس النظام الدستور، ومزّق وحدة البلاد، ودمّر وحدة الشعب، وهجّر أكثر من نصفه، وتسبب بانهيار كل شيء.

حسب قوانين الجزاء والعقوبات الجديدة للمنظومة الاستبدادية فإن المساس بهيبة الدولة ومكانتها المالية، والإساءة للأديان وإثارة النعرات الطائفية، والترويج الإلكتروني للمخدرات، وانتقاد أي موظف في الدولة، أوالتحريض على سلخ أي جزء من الدولة؛ أوإثارة عصيان مسلح ضد السلطات، أو قلب أو تغيير نظام الحكم في الدولة؛ جريمة يعاقب عليها القانون. ما مِن عاقل يعترض على ذلك؛ ولكن إذا تمعنّا بالذي حدث ويحدث في سوريا، فليس هناك أسهل مَن تحديد المرتكبين والمدمِرين لكل ما تعاقِب عليه هذه القوانين:

  • في "هيبة الدولة"، هل يمَس بهيبة الدولة مَن ينتقد أو يصرخ من العوّز والجوع والمرض والذل والنهب والمخدرات والحرمان والخطف والفساد العلني وتصدير خيرات سوريا وحرمان الناس من كل شيء؟ أليست العصابة الحاكمة هي التي تفعل كل ذلك؟! فإذا كان الدستور وتطبيقه واحترامه تشكِّل المحصِّنات الأساس لسيادة الدولة، وإذا كانت السلطة القائمة ذاتها سلّطت المرتزقة والشبيحة والميليشيات على أرقاب العباد قتلاً واعتقالاً وحرقاً وتشريدا، وإذا كان الاحتلال الروسي والإيراني قد هتك السيادة، ودفع باتجاه اللعب بدستورها القائم، فأي هيبة بقيت لهذه الدولة؟! وهل انتقاد ذلك جريمة تخلُّ بهيبة الدولة، وممارسته في الواقع ليس بجريمة؟! ومن هنا، فإن الدستور الذي تريد المنظومة حمايته كتعبير عن سيادة الدولة وهيبتها تم تدميره من قبل المحتل الروسي والإيراني الذي وضع يده على البُنى السياسية والاقتصادية والمصيرية لسوريا، وبسبب قتل المنظومة لشعبها وتدمير حياته.
  • في التحريض على سلخ أي جزء من الدولة، لا بد أن نسأل عمّن تحدث عن "سوريا المفيدة"، ومن اقتلع السوريين من بيوتهم بعد تدميرها، ومن أسهم بالتغيير الديموغرافي، ومن جعل من سوريا مقاطعة لـ PKk بدعم أميركي، وأخرى تحت سيطرة إيران، وثالثة مليئة بالنازحين بنفوذ تركي. أليس إرهاب الدولة، و"الأسد أو نحرق البلد" الوصفة الأهم للسلخ والتقسيم؟!
  • في المكانة المالية للدولة والتأثير على العملة وإيداع الأموال وسحبها، أليست الدولة مسؤولة عنها؟! وإذا كان القائمون على هذه الدولة هم أنفسهم أو مَن هو محميّ من قبلهم هو الذي يسحب أموال البلد وخيراتها لحساباته الخاصة في الخارج، ومَن يتاجر ويتلاعب بأسعار صرف العملة، ومن يبيع الخدمات الأساسية المجانية في دوائر الدولة، ومن ينسف الثقة بالعملة المحلية؛ فهل يُجَرَّم مَن ينتقد ذلك؟!
  • في الإساءة للأديان والمقدسات والشعائر الدينية، ألم تكن تلك الأفعال الشائنة الأداة الأمضى بيد سلطة الاستبداد في بعثرة المجتمع السوري، وجعل الأخ يقف في وجه أخيه؟! ألم يكن جزاء إطلاق عبارة "لا إله إلا الله" الاعتقال أو القتل الفوري؟! ألم نرَ ونسمع مَن يقول للمعتقلين قل: "لا إله إلا بشار"؟!
  • في الترويج الإلكتروني للمخدرات، لا نشهد استخداماً لوسائط التواصل الاجتماعي الإلكتروني لذلك؛ ولكن ما تشهده سوريا والعالم هو إنتاج وتصدير وتهريب المخدرات من قبل مجرمي تلك المنظومة بالاشتراك مع ميليشيات حزب الله وإيران. والمفارقة أن منظومة الاستبداد هي مَن يمنح تلك العصابات الحماية والحصانة من الملاحقة.
  • في الإساءة لموظفي الدولة، يريد هذا القانون أن يقْتُلَ الشبيح، ويخطف "الدفاع المدني"، ويرتشي الموظف لتقديم خدمة حق مكتسب للمواطن، ويلعب تاجر النظام بقوت الناس، ويبتز السجان أهل معتقل، ويسرق رئيس وزراء المليارات، ويضع الروسي والإيراني يده على موارد سوريا، ويرتشي الموظف لتأمين خدمة لمواطن يريد فقط الخروج من هذا الجحيم؛ وأن لا ينبس سوريٌ ببنت شفة، ويعَدُّ مَن ينتقد ذلك مجرماً.

وبخصوص مرسوم "العفو" الأخير لمنظومة الاستبداد، فهو ليس إلا محاولة بائسة لامتصاص عقابيل مذبحة التضامن التي فضحتها صحيفة الغارديان؛ بل محاولة وقحة وسخيفة لتلميع وحشيته. فلو تم تنفيذ "مراسيم عفو" سابقة على ما يسميه /جرم الإرهاب/، لما تبقى معتقل في زنزاناته. وبحكم أن هذا المرسوم يصدر، فالدليل أنه مازال هناك معتقلون، وما سبق من "مراسيم عفو" لم تُنفّذ. فهذه المنظومة تكذب وتلعب وتحاول يائسة تلميع نفسها وامتصاص الغضب، وفي الوقت ذاته تبقيه سيفاً مسلطاً على رؤوس أدواتها كقَتَلة لتحاكمهم متى تشاء.

ما حدث ويحدث في سوريا، لا علاقة له بأي قانون أو ظوابط أو نواظم للحياة؛ فالقانون السائد والمنفذ الوحيد هو قانون الاستبداد

في المحصلة النهائية، نتحدث هنا عن قوانين ومراسيم ومواد قانونية وفصول دستورية وقوتها وتحصينها لتعاقد اجتماعي مقدس ناظم للحياة عدلاً وإنصافاً وكرامةً وسيادة؛ ولكن حقيقة ما حدث ويحدث في سوريا، لا علاقة له بأي قانون أو ظوابط أو نواظم للحياة؛ فالقانون السائد والمنفذ الوحيد هو قانون الاستبداد. هذه القوانين تحمل انتهاكاً صارخاً للعهد الدولي للأمم المتحدة المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية، وللمعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان. الأمر الطبيعي أن تصدر هكذا قوانين من هكذا سلطة؛ فهي لا ترى في الإنسان السوري إنساناً، بل مخلوقاً بلا قيمة؛ ولكن مصير هذا الإنسان السوري أن يثبت إنسانيته وعظمته بخلاصه من تلك الوحوش.